تبدّت في قمة حلف شمال الأطلنطي «الناتو» تحديات غير مسبوقة ومصائر معلقة في حرب أوكرانيا وغزة ومستقبل الرئاسة الأميركية نفسها.
بعد 75 عاماً على تأسيسه عقب الحرب العالمية الثانية في 1949 بذريعة مواجهة النفوذ السوفيتي في القارة الأوروبية يُطرح سؤال المستقبل نفسه مجدداً.
موازين القوى وحسابات المصالح اختلفت.
لم يعد العالم منقسماً، كما كان إثر الحرب العالمية الثانية، أيديولوجيا واستراتيجيا واقتصاديا إلى معسكرين كبيرين، أحدهما بقيادة الاتحاد السوفيتي والآخر بقيادة الولايات المتحدة.
الاتحاد السوفيتي انهار وتقوّض حلف «وارسو»، الذي أنشئ عام 1955 كرد فعل استراتيجي على حلف «الناتو». لم يكن العالم العربي خارج الاستقطاب الفكري والسياسي، الذي صاغ مرحلة الحرب الباردة.
حاولت مجموعة دول عدم الانحياز اختراق النظام الدولي الثنائي القطبية وتأسيس آخر وفق مبادئ «باندونج».
لم يعنِ ذلك الوقوف على مسافة متساوية بين المعسكرين المتصارعين، فقد كان التحرر الوطني القضية الأكثر مركزية على أجندة الدول المستقلة حديثاً.
بانفراد القوة الأميركية بالنظام الدولي تعرض العالم العربي، أكثر من غيره، لما يشبه التحطيم ونالت من سلامته مشروعات التقسيم والتفكيك والاحترابات الأهلية وسقطت دول عربية عديدة واحدة إثر الأخرى.
كان مثيراً أن أكثر من ابتهجوا لسقوط الاتحاد السوفيتي هم أنفسهم الذين دفعوا أغلب الفواتير.
أمام الحسابات والتحولات الجديدة وجد الرئيس الأميركي جو بايدن في انعقاد قمة «الناتو» بواشنطن فرصة يحتاجها لتأكيد جدارته بقيادة الحلفاء الغربيين والولايات المتحدة نفسها.
هو رجل مأزوم في خياراته الاستراتيجية على جبهتي أوكرانيا وغزة، لا حسم الأولى ولا أمكنه تجنب عواقب حرب الإبادة في الثانية.
وهو رجل مأزوم في أوضاعه الانتخابية التي قد تخرجه من السباق الرئاسي بتداعيات الأداء الباهت في المناظرة الانتخابية الأولى التي جمعته مع خصمه اللدود دونالد ترامب.
طُرحت على نطاق واسع بين أنصاره ومؤيديه شكوك قوية في قدرته الإدراكية وتساؤلات داخل حزبه الديمقراطي إذا ما كان قادراً على الوفاء بمهام ومتطلبات الرئاسة في السنوات الأربع المقبلة.
أهدرت الفرصة المستأنفة في قمة «الناتو» بأخطاء إدراكية جديدة، كأن يقدم الرئيس الأوكراني زيلينسكي على أنه الرئيس الروسي بوتين!
تعالت دعوات لاستبداله بمرشح ديمقراطي آخر قبل أن تقع الواقعة وتكون الخسارة فادحة وموجعة في صناديق الاقتراع.
بدا مستلفتاً حرص عدد كبير من القادة الغربيين أثناء تواجدهم في واشنطن على مد الجسور مع مساعدي «ترامب» ترقباً لأية تغييرات مرجحة بالبيت الأبيض.
من زاوية أميركية خالصة سادت أجواء قمة «الناتو» نظرتان متناقضتان.
الأولى، يتبناها بايدن وترى أن الحلف ضرورة أميركية لتأكيد نفوذها في العالم، وأنه الآن أكثر توحداً وقوة عن أي فترة سابقة منذ تأسيسه رغم اختلاف الأزمان والتحديات.
والثانية، يصرح بها ترامب بدعاوى التخفّف من تكاليفه الباهظة على الموازنة الأميركية رافعاً شعار: الدفع مقابل الأمن.
لم تكن هذه المرة الأولى التي يطرح فيها سؤال المستقبل على أجندة الحلف، فقد طرح بإلحاح عند انهيار سور برلين (1989): «ما جدواه وقد انهار الاتحاد السوفيتي وتفكك حلف وارسو؟».
لوقت قصير بدأ البحث عن «عدو جديد».
جرى التفكير فيما أطلق عليه «الإرهاب الإسلامي»، لكنه لم يوفر ذرائع مقنعة لوجود أكبر حلف عسكري في التاريخ الحديث.
بالوقت نفسه جرى رفض اقتراح روسي بالانضمام إليه.
كان الثمن السياسي لإعادة توحيد الألمانيتين تعهداً أميركياً بعدم نشر صواريخ حلف «الناتو» على الحدود الروسية المباشرة. بدا الإخلال بذلك التعهد ـ من زاوية روسية- سبباً مباشراً في تفجر الحرب الأوكرانية.
سادت نزعة «شيطنة روسيا»، وجرت محاولات حثيثة لعزلها وإذلالها.
فرضت عليها عقوبات اقتصادية وتجارية مشددة وصلت إلى منع دراسة آدابها في الجامعات الإيطالية.
أمام حمى الدعايات حذر وزير الخارجية الأميركي الراحل هنري كيسنجر من مغبة محاولة إذلال موسكو.
لم يستمع إليه صناع القرار في البيت الأبيض حتى داهمتهم التطورات بإخفاق العمل العسكري على الساحة الأوكرانية وتمكن موسكو من اكتساب أراض جديدة.
كانت تصريحات ترامب في مناظرته مع بايدن عن استعداده لإنهاء الحرب بالتوصل إلى تسوية مع «بوتين» دون استجابة لشروطه داعياً إضافياً لإضفاء أجواء وتساؤلات شبه معلنة بقمة «الناتو» عن مستقبل الحرب الأوكرانية وتأثيرها على الأمن الأوروبي.
فيما يمكن وصفه بالهجوم المضاد من إدارة بايدن تضمن البيان الختامي تصعيداً حاداً ضد روسيا والصين معاً.
الأولى بصفتها «أكبر تهديد مباشر».. والثانية بوصفها «متورطة في الحرب».
بتدخل آخر من الإدارة الأميركية نص البيان الختامي على «تقاسم الأدوار والأعباء». كان ذلك رداً غير مباشر باسم الحلفاء الغربيين على الحجج التي يسوقها ترامب للتخفف من أعباء «الناتو».
كان ذلك من مقتضيات آخر معارك بايدن.
لم يكن مفاجئاً التوسع في إرسال سلاح متقدم إلى كييف شاملا طائرات (أف 16) والتعهد بدعم مالي جديد يبلغ (40) مليار يورو. كان ذلك من دواعي طمأنة أوكرانيا بامتلاك قدرة الردع أن بوسعها الصمود أمام القوة الروسية حتى إذا تغيرت الرئاسة الأميركية.
المستلفت هنا أن مشروعات ضم أوكرانيا للحلف لم تتقدم خطوة واحدة، ولا منحت حق استخدام تلك الأسلحة والطائرات داخل الأراضي الروسية.
إنها حدود القوة.
في قمة «الناتو» تراجعت أولوية الحرب على غزة بعد تسعة أشهر من اندلاعها وتصدرت الحرب الأوكرانية وحدها المشهد كله. كان ذلك تعبيراً عن ما يجمع الغربيين وابتعاداً عما قد يفرقهم. بتعبير رئيس الوزراء الإسباني: لا يصح للغرب الكيل بمكيالين في حربَي أوكرانيا وغزة .
وقد كان اعتراف أسبانيا، ودول أوروبية أخرى، بالدولة الفلسطينية حدثاً مزلزلاً قبل أن تعلن مدريد انضمامها إلى دعوى جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية التي تتهم إسرائيل بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية.
تبدت في تصدر الجبهة الشعبية الجديدة الانتخابات التشريعية الفرنسية بتوجهاتها المؤيدة للفلسطينيين سيناريوهات ترجح اعتراف باريس بالدولة الفلسطينية بأقرب وقت ممكن.
لم تكن إدارة بايدن المهزوزة مستعدة أن تخوض معركة بالنيابة عن رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو، الذي يراوغها ويحاول بقدر ما يستطيع أن يربح وقتاً إضافياً حتى صعود حليفه الموثوق ترامب.
ولا كان ممكناً بناء قاعدة توافق غربية تستجيب للمطالب الإسرائيلية في الدعم والإسناد.
إنها حسابات ومواقف جديدة ترتبت على قوة الحراك الشعبي المؤيد للفلسطينيين في العواصم والجامعات الغربية وسوف تكون لها كلمة حاسمة سواء نجح بايدن، أو لم ينجح في آخر معاركه.