في مقابلة مع قناة «فوكس نيوز»، يشير دونالد ترامب إلى أن انتقاد إسرائيل في الولايات المتحدة كان غير ممكن قبل 15 عاماً، وأن قوة اللوبي الصهيوني منعت هذا الأمر، لكن الأمر تغيّر الآن، إذ باتت إسرائيل، بحسب تعبيره، «تحت الحصار». في معرض محاولته استنكار نقد إسرائيل، وإظهار دعمه المطلق لها، يؤكد ترامب - رغم مبالغاته - ما بات واضحاً في أميركا بعد السابع من أكتوبر: اهتزاز هيمنة إسرائيل وأنصارها على السرديّة. صار نقد إسرائيل يلقى رواجاً أكبر، وتأثّر بعض الأميركيين بتغطية الجرائم الصهيونية في وسائل التواصل الاجتماعي، وانطلقت المظاهرات الطلابية لتدقّ جرس الإنذار بالنسبة إلى أنصار إسرائيل، لكن هيمنة الصهيونية على النخبة السياسية الأميركية وخطابها لم يهتزّ بعد.تنبّهت لجنة الشؤون العامّة الأميركية الإسرائيلية (أيباك) إلى أهمّية التحوّلات الجارية داخل الحزب الديموقراطي، وصعود نواب تقدّميين لديهم انتقادات علنية لإسرائيل، وقرّرت أن ترمي بثقلها في موسم الانتخابات الحالي، عبر ذراعها المسماة «مشروع الديموقراطية المتحدة»، وهكذا ضخّت اللجنة أموالاً هائلة في الصيف لهزيمة المرشحين التقدّميين في الانتخابات التمهيدية للحزب الديموقراطي، ونجحت في هزيمة النائب جمال بومان من نيويورك، والنائبة كوري بوش من ميسوري. كذلك، قامت بضخ الأموال في الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري لمنع عودة النائب الجمهوري السابق عن إنديانا، جون هوستيتلر، إلى الكونغرس مجدّداً باعتباره معادياً لإسرائيل وفقاً لتصنيفهم. تركّز اللجنة بوضوح على منع تحوّلات داخل الحزبين تضرّ بمصالح إسرائيل أو تعرّضها للنقد والهجوم.
تلعب أموال المانحين الدور الأبرز في الحملات الانتخابية (وإن لم يكن عاملاً حاسماً للفوز بشكل دائم)، وهذه الأموال تأتي في الغالب من جهات مؤيّدة للصهيونية في الولايات المتحدة، ما يجعل مرشحي الحزبين للكونغرس والرئاسة ملتزمين بالتعبير عن دعم إسرائيل من دون تحفّظات، والتنافس في هذا الإطار. صحيح أنّ كتلة تتشكّل من العرب والمسلمين وحلفائهم تعبّر عن غضبها إزاء العدوان الإبادي الصهيوني على غزة، لكن هذا الغضب لا يصل لمرحلة التأثير السياسي لغياب القدرة المادية على ترجمته في الضغط على النخبة السياسية. مع ذلك، تبدو الفرصة سانحة لهذه الكتلة لتحدث تأثيراً ما في الانتخابات الرئاسية المقبلة، نظراً إلى الانقسام الحادّ في الولايات المتحدة بين الجمهوريين والديموقراطيين، ووجود ولايات متأرجحة يتوقّف عليها انتصار أحد الطرفين في السباق الانتخابي، حيث تشكّل الكتلة العربية والمسلمة وزناً مهمّاً في ولاية ميشيغان المتأرجحة، مع وزن أقلّ في ولايات متأرجحة أخرى مثل بنسلفانيا.
تنبّهت «أيباك» إلى أهمّية التحوّلات الجارية داخل الحزب الديموقراطي، وصعود نواب تقدّميين لديهم انتقادات علنية لإسرائيل، وقرّرت أن ترمي بثقلها في موسم الانتخابات الحالي
ازدياد ضراوة الحملة الصهيونية لمواجهة إرهاصات حرب غزة داخل أميركا، مع ازدياد أهمّية أصوات الناخبين العرب والمسلمين وحلفائهم في بعض الولايات المتأرجحة، يحكم بشكل واضح موقف حملة كمالا هاريس. اختارت هاريس وحملتها أن تنحاز كالعادة إلى إسرائيل لكسب رضى المانحين، لكنها حاولت تقديم مغازلة محدودة للجمهور المؤيّد للقضية الفلسطينية عبر الحديث عن ضرورة وقف إطلاق النار، غير أنّ هذا لم يتعدَّ حدود الكلام العمومي، فلا هي ضغطت بهذا الاتجاه بصرامة، ولا منحت فرصة لأنصار فلسطين ليتحدّثوا في مؤتمر الحزب الديموقراطي كما فعل أهالي الأسرى الإسرائيليين. ظلّت اللعبة الأساسية للديموقراطيين مع هؤلاء وغيرهم من المتردّدين هي تخويفهم بترامب، وتقديم أنفسهم بأنهم الخيار الأفضل (أو الأقلّ سوءاً)، وهم ليسوا مستعدّين لخسارة المانحين الصهاينة بتقديم شيء جدّي لهذه الكتلة، وإن كانوا يريدون أصواتها.
يجد نتنياهو في السباق الانتخابي فرصة للتمسّك بموقفه، ورفض تقديم التنازلات، بل وانتزاعها من إدارة بايدن. يراهن نتنياهو على عودة ترامب إلى البيت الأبيض، فهو يرى أن الديموقراطيين لا يمكّنونه من مشروعه المتعلّق بتصفية القضية الفلسطينية، إذ يرون ضرورة التصفية الهادئة للقضية بإيجاد حل سياسي يحفظ مصلحة إسرائيل ومصالح أميركا في إقامة حلفٍ تحت مظلّتها في المنطقة، فيما يعتقد نتنياهو، من تجربته السابقة مع ترامب، أنّ الأخير لا يكترث كثيراً لهذه الأمور، وهو، بمنطق رجل الأعمال، يفضّل عقد صفقة مع اليمين الصهيوني يتركهم يفعلون ما يحلوا لهم، مقابل الحصول على الدعم الصهيوني في معركته في الداخل الأميركي.
لا يريد نتنياهو، والحالة هذه، تقديم منجز للإدارة الديموقراطية بوقف إطلاق النار، ويرى أنّ الفرصة مؤاتية للتصعيد الإقليمي، ووضع الولايات المتحدة في عزّ الموسم الانتخابي أمام الأمر الواقع لتدعم خطواته وتغطّيها، إذ لن يبادر ترامب أو هاريس إلى مواجهةٍ معه، وقد يتمكّن من فرض وقائع معيّنة عليهما قبل وصول أحدهما إلى البيت الأبيض.
* كاتب عربي