إذا ما أخذنا محتوى رسالة وزير خارجية بريطانيا إبان الحرب العالمية الأولى آرثر بلفور الموجهة إلى الصهيوني ليونيل والتر روتشيلد أحد المتنفذين اليهود في بريطانيا التي تنص :”تنظر حكومة صاحب الجلالة بعين العطف إلى إقامة وطن قوميّ للشعب اليهوديّ في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جلياً أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي بلد آخر” هذه الرسالة التي لا تتعدى 50 كلمة نرى أنها ومنذ أكثر من مئة سنة كلفت العرب بشكل عام، والفلسطينيين بشكل خاص خسائر بشرية ومادية وحروبا لا تنتهي على يد اليهود أنفسهم.
رسالة بلفور
ومع أن بلفور في رسالته الشهيرة وصف اليهود بـ”الشعب” ونفى هذه الصفة عن الفلسطينيين (الذين لم يذكرهم بالاسم) بل أعطاهم صفة “طوائف غير يهودية” وبمعنى آخر أن النية كانت مبيتة لمحو ذكر الفلسطينيين وعدم اعتبارهم كشعب. مع أن اليهود الذين كانوا موزعين على بلدان عديدة عربية وأوروبية وأمريكية لا يوجد أي رابط بينهم سوى الدين مع الاختلافات الطائفية، وفيما بينهم خلافات جوهرية بالنسبة لموقفهم من الصهيونية، وإنشاء دولة بما ينفي عنهم صفة الشعب المتجانس، المتواجد في مكان واحد، ففي البلدان المختلفة لم يملكوا أرضا يعيشون عليها ليتم طردهم منها كما فعلوا ويفعلون حاليا في طرد الفلسطينيين من أرضهم بحجج دينية توراتية تقوم على أن فلسطين هي أرض الميعاد.
بلفور لم يحدد الأرض التي وعد بها اليهود سوى قوله كلمة: “فلسطين” تماما كما جاء في نص التوراة التي يعتمد عليه الصهاينة في اعتداءاتهم وعمليات اغتصابهم للأراضي الفلسطينية:” الرب أعطى لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك، كل أرض كنعان ملكا أبديا وأكون إلههم” (سفر التكوين، الإصحاح 17: 8-9). وأرض كنعان هي بدورها غير محددة فهي تشير إلى أرض الكنعانيين الذين كانوا متواجدين في فلسطين ولبنان وسوريا والأردن التي بدورها لم تكن لها حدود واضحة وإلى أين تصل هذه الحدود.
فالحركة الصهيونية كانت تطلب إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين بعطف من بريطانيا التي كانت دولة الانتداب، ولم تذكر كلمة دولة في رسالة بلفور إلا مع مشروع التقسيم في العام 1947.
المؤتمر الصهيوني الأول
بدأت عملية الاستيطان اليهودي في فلسطين في العام 1829 وجاءت إثر اغتيال القيصر الروسي ألكسندر الثاني (بسبب مشاركة يهود فيها وهربهم إلى فلسطين)، وخلال سنوات قليلة تم إنشاء 19 مستوطنة بتمويل من أموال عائلات يهودية غنية كعائلة روتشيلد، وبعد المؤتمر الصهيوني الأول في بازل في العام 1879 تم توسيع الاستيطان القروي عبر شراء الأراضي قبيل الحرب العالمية الأولى حسب توصيات مؤتمر بازل الصهيوني، ولكن بعد صدور وعد بلفور ونشاط الوكالة اليهودية بتهجير اليهود إلى فلسطين أصبحت عمليات الاستيطان بالاغتصاب عبر المجازر التي ارتكبتها عصابات إرهابية صهيونية بحماية الجيش البريطاني (بمعنى آخر أن الوطن القومي الموعود لم يكن عطفا من المملكة المتحدة ليهود مساكين يبحثون عن مأوى آمن، ولكن اغتصابا بقوة السلاح)، وهذه العصابات الصهيونية الإرهابية كانت تهدف منذ بداية تشكيلها الاستيلاء على أوسع المساحات الممكنة من الأراضي من ناحية، وتهجير سكانها الفلسطينيين (تماما على عكس ما وعد بلفور بما قاله بعدم انتقاص الحقوق المدنية والدينية للطوائف الأخرى) من ناحية أخرى.
الحربان العالميتان
وخلال الفترة بين الحربين العالميتين الأولى والثانية تمكنت العصابات الصهيونية من إنشاء 290 مستوطنة في أرجاء فلسطين. وقد ساهمت بريطانيا من تمكين أرجل هذه العصابات في الأرض (وهكذا نرى أن الهجرة اليهودية إلى أرض فلسطين لم تكن ذات طابع سلمي ليهود يبحثون عن العيش مع السكان المحليين بل جاءت لتقتلهم وتهجرهم وتغتصب أراضيهم).
وقد تفاقمت حركة اغتصاب الأراضي بعد الحرب العالمية الثانية واستغلال المحرقة اليهودية (الهولوكوست)، لاستدرار العطف العالمي من جهة، ودفع أكبر عدد من اليهود للهجرة إلى فلسطين، ومع تفاقم الصدامات بين اليهود والفلسطينيين قررت الأمم المتحدة بإصدار قرار التقسيم (وهذا بهدف إنشاء الدولة اليهودية والتي لم تكن متضمنة في وعد بلفور)، وقرار التقسيم رقم 181 ينص على إنشاء دولتين إسرائيلية على 54 في المئة من مساحة فلسطين و46 في المئة للدولة الفلسطينية، على أن تنسحب بريطانيا المنتدبة من كامل فلسطين، (وهذا يعني أن دورها في تمكين اليهود بإقامة دولتهم على أرض فلسطين وهنا تتضح جليا نوايا بريطانيا الخفية من وراء وعد بلفور)، بعد حرب النكبة تمكنت العصابات الصهيونية من الاستلاء على باقي أراضي فلسطين ما عدا الضفة الغربية التي احتلتها الأردن، وغزة التي احتلتها مصر.
وحاولت إسرائيل في حرب السويس 1956 احتلال غزة وكامل صحراء سيناء بالتحاقها بالعدوان البريطاني الفرنسي بعد تأميم قناة السويس. (مع أن مصر لم تهاجم إسرائيل وهنا يتضح أيضا أن نيتها واستراتيجيتها غير المعلنة هو الاستيلاء على أكبر مساحات ممكنة من الأراضي وقد تم لها ذلك بعد حرب النكسة 67 باحتلالها الجولان والضفة الغربية وصحراء سيناء والجولان السوري الذي ضمته في العام 1982 أما سيناء فكانت مفتاح التطبيع المصري معها).
وخلال 10 سنوات لاحقة استطاعت بناء 79 مستوطنة في الضفة وغزة والجولان.
الأرض مقابل السلام
في العام 2002 وفي القمة العربية في بيروت تقدم المملكة العربية السعودية بخطة الملك عبد الله التي باختصار تقترح على إسرائيل التطبيع العربي الكامل مقابل استعادة الأراضي المحتلة عام 1967 وبناء الدولة الفلسطينية.
ويبدو اليوم واضحا أن مثل هذه الخطة التي تطلب استعادة الأراضي وبناء دولة فلسطين، تنم عن عدم فهم الأنظمة العربية للاستراتيجية الصهيونية التي تبحث عن اغتصاب الأراضي وليس الانسحاب منها، وترفض بناء دولة فلسطينية.
وبعد معركة طوفان الأقصى تتوضح الصورة أكثر (ونأمل أن تفهمها الأنظمة العربية وخاصة المطبعة منها)، فاليمين الفاشي المتطرف في إسرائيل الذي يقوده بن غفير، وسموتريش، ونتياهو يخوض معركة التهويد للأراضي الفلسطينية بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، والمعركة تتوسع للضفة الغربية حيث أقيمت المستعمرات الصهيونية في كل مكان وتم تسليح المغتصبين الذين يعتدون على الفلسطينيين في القرى ويطردونهم من منازلهم وأراضيهم، ويقوم جيش الاحتلال باقتحام المدن ويجرف الطرقات ويضرب البنى التحتية ويرتكب يوميا جرائم القتل والاعتقال التعسفي. وتقول الإسرائيلية إيمونا بيلا رئيسة عصابة لمستوطنين في الضفة لصحيفة “صاندي تايمز”: “وعدنا الرب بهذه الأرض، وقال لنا إن لم تسيطروا عليها فسيأخذها الناس الأشرار، وستندلع الحرب”. وأضافت: “لماذا نخوض الحرب في غزة؟ لأننا لم نسيطر على غزة” وهذه تلميذة المعلمة الروحية دانييلا فايس 79 عاما التي تقوم بإنشاء المستعمرات غير الشرعية منذ نصف قرن، وقد وصل عدد المستعمرين اليوم 700 ألف مستعمر في 130 مستوطنة، وتقول: “إن لبنان أيضا هي لنا”، وتهدف إسرائيل إلى ترحيل الفلسطينيين إلى الأردن وهذا ما أثار غضب وزير الخارجية أيمن الصفدي الذي قال:” إن أي تهجير للفلسطينيين نحو الأردن هو إعلان حرب”.
المسجد الأقصى
وأعلن نتنياهو تعيين حاكم عسكري لقطاع غزة لأمد طويل، وصرح بن غفير أن يخطط لبناء كنيس في المسجد الأقصى، وقد كشفت وسائل إعلامية عبرية أن جهات رسمية تعتزم تخصيص مبلغ 540 مليون دولار لتمويل اقتحامات استيطانية منظمة لانتهاك حرمة المسجد الأقصى.
اليوم الكرة في ملعب الفلسطينيين أولا وأخيرا فوحدة الصف الفلسطيني هي الوحيدة الكفيلة بإحباط كل مخططات الصهيونية، لأن الاعتماد على الأنظمة العربية والإسلامية مجرد وهم وسراب، لأن معظمها اليوم مرتبط إما مع أمريكا حليفة إسرائيل التي تدافع عنها وعن جرائمها وتدعمها بالمال والسلاح لاستكمال مخططاتها الاستعمارية، أو مطبع مع دولة الاحتلال واتخذ إما موقف الصمت، أو الوقوف مع ابن العم الصهيوني المحتل والمعتدي والقاتل ضد أخيه.
كاتب فلسطيني