العملية العسكرية الإسرائيلية على الضفة الغربية واستباحة بشرها وشجرها وحجرها وحيواناتها متواصلة منذ أكثر من عشرة أيام، وحصيلتها حتى الآن (10) شهداء و(120) جريحاً وأكثر من (470) أسيراً، وما يجري من عمليات على الأرض يفوق إدعاءات وذرائع حكومة الإحتلال
بأن ذلك مرتبط بالعمل على إعادة مستوطنيها الثلاثة المختفين "الأسرى الإفتراضيين"، حيث لم تعلن أي جهة أو منظمة فلسطينية عن أسرهم، رغم أن نتنياهو وحكومته حمّلوا "حماس" في الخارج المسؤولية عن عملية الأسر، تارة بإتهام رئيس مكتبها السياسي خالد مشعل في خطاب له قبل شهر، وأخرى بإتهام عضو مكتبها السياسي صالح العاروري الأسير المحرر والمقيم في تركيا تلك المسؤولية، ولكن بغض النظر عن ذلك فإن ما يهدف إليه الإحتلال من عملياته التي ترتكب فيها جرائم حرب، حيث عمليات الدهم والتفتيش والإقتحام بطرق وحشية، وكذلك تدمير البيوت والممتلكات والمؤسسات، وإغلاق العديد من تلك المؤسسات بحجة وذريعة تبعيتها وعلاقتها بحركة "حماس" وقوى المقاومة الفلسطينية، وحملة الإعتقالات الواسعة والتي طالت بشكل رئيسي قيادات وكادرات وأعضاء وأنصار حركة "حماس" في الضفة الغربية وفصائل العمل الوطني الأخرى، بل وذهبت إلى أبعد من ذلك بإعادة إعتقال الأسرى المحررين في صفقة الوفاء الأسرى، صفقة "شاليط" في خرق سافر لشروط الصفقة وكل الأعراف والمواثيق والإتفاقيات الدولية، وما حدث بلطجة بإمتياز، ويضاف لذلك عمليات القتل والإغتيال والتي طالت أطفالاً وطاعنين في السن، ومنع سكان محافظة الخليل من حرية الحركة والتنقل والعمل والدخول للقدس وإلى داخل "الخط الخضر"، واليوم منعوا أيضاً من المرور عبر حاجز "الكونتينر" على مدخل السواحرة الشرقية الذي يربط جنوب الضفة بشمالها، وذهب بعض أعضاء حكومة الإحتلال مثل الوزير المتطرف "داني دنون" نائب رئيس الوزراء الإسرائيلي ومن حزب "البيت اليهودي" أبعد من ذلك بمطالبة الحكومة الإسرائيلية بقطع الكهرباء عن محافظة الخليل لعدة أيام كعقاب جماعي لسكان المحافظة.
العملية العسكرية الإسرائيلية ببعدها الأمني تجاوزت محافظة الخليل والمفترض أن يكون المستوطنين الثلاثة المختفين "الأسرى الإفتراضين"، قد أسروا فيها وما زالوا موجودين فيها، حيث حرب الإستباحة والإقتحامات طالت كل الضفة الغربية، في عملية لا يشبها سوى عملية ما يسمى بـ"السور الواقي" في نيسان 2002، فقد جرى إقتحام كل المؤسسات الجامعية الفلسطينية وعشرات المؤسسات الأخرى.
هذه العملية واضح بأنه ليس فقط على جدول أعمالها ورأس اهدافها العمل على إعادة المستوطنين الثلاثة، بل هناك جملة من الأهداف السياسية التي سعت تلك الحكومة اليمينية المتطرفة لتحقيقها من هذه العملية، والتي يبدو بأن مخططاتها وأهدافها كانت معدة سلفاً ومن فترة ليست بالقريبة، فهذه الحكومة كانت مهددة بالسقوط أو الذهاب لإنتخابات مبكرة على خلفية تعثر وفشل المفاوضات مع السلطة الفلسطينية، والسلطة الفلسطينية ردت على ذلك بالتوجه للمصالحة مع "حماس" وتشكيل حكومة "وفاق" وطني، حكومة لم تقاطعها الولايات المتحدة ولا دول الإتحاد الأوروبي، وبالتالي العامل الذاتي الفلسطيني مرشح للتصليب والوحدة، ويفشل المخطط الإسرائيلي بإستمرار التحجج والإختباء خلف أن الرئيس عباس ضعيف ولا يوجد له سيطرة على قطاع غزة، وهذا يقطع عليها الطريق في تنفيذ مخططاتها بمواصلة الإستيطان ومواصلة المفاوضات العبثية، ولذلك فإن هذه العملية العسكرية المتواصلة هدفت إلى تحقيق مجموعة من الأهداف السياسية في الضفة الغربية، على أن تستكمل بشن حرب عدوانية على قطاع غزة، لكي تحقق أهداف عدوانها على الضفة الغربية، فهي أرادت ان تدمر البنية التحتية لحركة "حماس" في الضفة الغربية وباقي قوى المقاومة، وتفرغها من قياداتها ورموزها السياسية، لكي تطوع شعبنا وتكسر إرادته لفرض مشروع سياسي عليه، يعيد رسم جغرافية الضفة الغربية، بحيث يتم تجاوز أي حل يجري التفاوض عليه مستقبلاً على أساس دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة على الأراضي المحتلة عام 1967، لصالح مشروع دويلة مسخ في كانتونات وجيتوهات غير متواصلة جغرافياً واقتصادياً وديمغرافياً.
وكذلك القضاء على فكرة تشكيل حكومة وحدة وطنية أو وفاق وطني فلسطيني، والعمل على حرف أنظار العالم عن ما ترتكبه من جرائم حرب بحق الأسرى الإداريين الـ(180) المضربين عن الطعام منذ (60) يوماً إحتجاجاً على إعتقالهم المتعارض مع كل الأعراف والإتفاقيات والقوانين الدولية، والذي لم يرفع المجتمع الدولي لا هيئة أمم ولا أمريكا ولا أوروبا الغربية صوتهم ضده وإدانة "إسرائيل" على ذلك، كما فعلوا في قضية المستوطنين الثلاثة المختفين، وبما يثبت مدى "تعهير" وإزدواجية المعايير الدولية وإنتقائيتها، للجلاد على حساب الضحية.
ولكي يكتمل المشهد وتتحقق أهداف العملية العسكرية، فالإحتلال بات يشعر بأن الظرف مؤات له، لكي يحقق أهدافه كاملة، وهذا يتطلب سحق المقاومة بشكل كامل، عبر عملية عسكرية في قطاع غزة، تتيج له وقف إطلاق الصواريخ المستمرة من القطاع على المستوطنات والمستعمرات الإسرائيلية، إستغلال ما تمر به "حماس" من ضائقة مالية وعدم فتح معبر رفح وعدم تحقيق المصالحة على الأرض، من أجل إنهائها كقوة منظمة ورئيسية في القطاع، وأيضاً إعادة هيبة الردع لجيش الإحتلال التي تآكلت كثيراً من بعد الحرب العدوانية التي شنتها "إسرائيل" على حزب الله والمقاومة اللبنانية في تموز 2006، وكذلك ما يسمى بعملية عمود السحاب على قطاع غزة في تشرين ثاني 2012.
إن هذا العدوان الإسرائيلي المتواصل والمتدحرج على شعبنا، والبالغ القسوة والوحشية، كان يتطلب من السلطة الفلسطينية واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير أن تكونا على رأس شعبهما في هذه المعركة الشرسة، كما كان يفعل عرفات وتجندان كل ما لديها من إمكانيات لصد هذا العدوان الآثم، بما في ذلك التوجه الفوري للإنتساب إلى محكمة الجنايات الدولية، لجلب حكام "إسرائيل" أمام المحاكم الدولية على جرائمهم البربرية ضد شعبنا، فإنها لا تكتفي بتكرار عزمها على منع انتفاضة شعبية جديدة، وإنما تؤكد على رؤوس الأشهاد تمسكها بالتنسيق الأمني إلى حد اعتباره مقدساً..! وهذا "المقدس" لا يعني في المواجهات مع الإحتلال اليوم إلا الأمرين التاليين:
أ - المساهمة الفعلية في حراسة الإحتلال حتى وهو يمارس جرائمه ضد شعبنا..!
ب - وأن هذه السلطة تعتبر وجودها وسلامتها هو الهدف، لا الوطن ولا الشعب ولا التحرر من نير الإحتلال.
وأختم بما قاله الرفيق نعيم الأشهب بكلمة: ما لم يجرِ التمرد على هذا النهج المتجاوب مع ضغوط الإحتلال وحلفائه، فإن القضية الفلسطينية مرشحة لنكبة جديدة تتجاوز في أبعادها ومصائبها نكبة 1948. وإذا لم تدرك ذلك التنظيمات السياسية الفلسطينية بما فيها "فتح"، وبخاصة اليسارية، وتهب لتغيير هذا المسار الخطير فالشعب والتاريخ سيعتبرها شريكاً في صنع المأساة التي تتشكل ملامحها في الأفق.
* كاتب ومحلل فلسطيني يقيم في مدينة القدس