فلنتوقف معاً أمام هذه المواقف المتلاحقة من مسألة احتمال نشوب حرب نووية تكتيكية محدودة انطلاقاً من أوكرانيا (وربما لاحقاً من الشرق الأوسط وتايوان): - إيفاجيل فالياناتوس (بروفسور في جامعتي هارفارد واليونيز): الحروب في أوكرانيا والشرق الأوسط، هي شرارات محتملة لكوارث نووية. وهذا ينطبق خاصة على الحرب في أوكرانيا، لأن هذا البلد هو طريق الحرب بين روسيا وأميركا النوويتين... لم يحدث أبداً منذ نهاية الحرب الباردة أن وصلت التوترات بين حلف الأطلسي وروسيا إلى هذا المستوى الشاهق من الخطر النووي كما الحال الآن.
- رالف نادر (سياسي أميركي): الولايات المتحدة تكرر في أوكرانيا ما فعلته في فييتنام، وجو بايدن ما فتئ منذ سنتين يطلق لاءات حول رفض التصعيد يُتبعها بـ»نعمات» متلاحقة عبر تزويد أوكرانيا بكل أنواع الأسلحة.
- و. ويتني (محلل استراتيجي أميركي): دورية «مانثلي ريفيو» الأميركية كانت على حق حين حذّرت من أن الولايات المتحدة تدفع العالم بالفعل نحو حرب عالمية ثالثة عبر أوكرانيا (وبالمناسبة، هذا ما برح يحذر منه أخيراً حتى دونالد ترامب).
- لي هاميلتون (نائب أميركي سابق وخبير أمني واستخباري): احتمالات الحرب النووية هي الأعلى الآن منذ نهاية الحرب الباردة قبل ثلاثين سنة.
ماذا يعني كل هذا الدفق من التحذيرات الخطيرة؟
حسناً. ليس ثمة هنا حاجة إلى تفسير الماء بالماء، إذ ثمة مروحة من الدلائل والمؤشرات التي تشي بأن السياسات الأميركية في شرق أوروبا تجعل العالم يتراقص بالفعل على شفا حرب نووية.
المنظّرون الأميركيون لهذه الحرب حريصون على التشديد بأن مثل هذه الحرب في حال نشبت، ستكون محدودة وتكتيكية نووياً. واللافت أنهم في وقت مبكر من عام 2022، وحتى قبل أن يبدأ الهجوم الروسي على أوكرانيا، كانوا يتحدثون آناء الليل وأطراف النهار عن أن احتمال نشوب الحرب النووية التكتيكية سيكون بنسبة 50-50 %، وأن روسيا هي التي ستدشنها.
وحين أرفق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الهجوم الروسي في شباط 2022 بإطلاق تحذيراته من احتمال استخدام موسكو لترسانتها النووية لردع حلف الأطلسي من التدخل، هلّل هؤلاء المحللون معتبرين أن ذلك يؤكد توقعاتهم. لا بل ذهب هؤلاء إلى أبعد من ذلك؛ فهم وضعوا (أيضاً منذ عام 2022) سيناريوهات الضربة النووية الروسية كالتالي:
1- تفجير نووي فوق البحر الأسود.
2- ضرب مقر القادة الأوكرانيين.
3- ضرب قاعدة عسكرية أوكرانية كبرى.
4- تفجير مدينة أوكرانية وفق نموذج هيروشيما.
5- تفجير نووي في الجو فوق أوكرانيا لخلق موجة كهرومغناطيسية مدمّرة تعطل كل إنتاج الطاقة.
مرّ الآن اكثر من سنتين ولما تحقق «نبوءات» المحللين» الأميركيبن. ما حدث كان العكس تماماً،
إذ اتجهت كل الأنظار إلى الولايات المتحدة ومعها أصابع الاتهام بأن واشنطن على وشك إحياء نظرية هنري كسينجر الشهيرة حول جواز شن حرب نووية تكتيكية محدودة.
كتب كيسينجر، في كتابه Nuclear weapons and foreign policy (1975) أن «محاولات كسب حرب نووية ستترك الجميع مدمّرين. ولذلك أقترح مواجهة العدو السوفياتي بالأسلحة التقليدية المعززة بقنابل نووية صغيرة. بكلمات أوضح: يجب أن نخوض الحرب النووية المحدودة بأسلحة تكتيكية، ويجب أن نستخدمها بفعالية من دون أن نتسبب بدمار زائد أو تدحرج نحو حرب نووية شاملة».
لكن، لماذا هذه الحماسة الأميركية المطلقة للحرب النووية؟
هنا يدخل على الخط المجمع الصناعي النووي الأميركي الضخم، ليلقي بكل ثقله لمواصلة التصعيد النووي الذي يشكّل كل مصدر موارده المالية الخيالية.
على سبيل المثال، وضعت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) أخيراً برنامج تسلّح نووي بقيمة 2 تريليون دولار يذهب جلها بالطبع إلى الشركات، لتحديث الترسانة النووية الأميركية وبناء صواريخ جديدة بالستية عابرة للقارات، وقاذفات وغواصات نووية. هذه الأموال الهائلة ستذهب إلى مؤسسات عملاقة مثل «بشتل» و»جنرال دايناميكس» و»لوكهيد مارتن»، و»نورثروب غرومان»... وبالطبع، هذه الشركات ستبذل كل جهدها للحفاظ على أقنية المال هذه، بما في ذلك «شراء» كل أو معظم أعضاء مجلس الشيوخ ومجلس النواب الأميركيين.
الصاروخ الباليستي الجديد الذي ينوي البنتاغون صنعه سيكلف وحده 141 مليار دولار. كل هذا يحدث فيما صرخات العديد من العلماء تذهب هباء وهي تحذّر من أن الصواريخ النووية البالستية العابرة للقارات هي الخطر الأكبر الآن على البشرية لأنها قد تسبب بنشوء حرب نووية عن طريق الصدفة أو الخطأ، إذ لن يكون أمام الرئيس الأميركي سوى دقائق معدودات لشن الحرب النووية بهذه الصواريخ إذا ما تلقّى إنذاراً ولو مخطئاً بأن هناك هجوماً نووياً على أميركا.
حين كان البنتاغون يبلور هذه البرامج التسليحية الجديدة، كان البيت الأبيض يتحرّك لمنح هذه البرامج الغطاء الجيوستراتيجي والأيديولوجي المطلوب.
وهذا ما تم قبل أيام، حين كُشف النقاب عن أن الرئيس بايدن أقرّ استراتيجية نووية جديدة تركز على كل من التهديد النووي الصيني وعلى التهديد النووي المشترك لكل من الصين وروسيا وكوريا الشمالية. «نيويورك تايمز» اعتبرت أن هذه الوثيقة التي كانت سرية، «ستدشن بروز مشهد نووي جديد في العالم، لن يستطيع أي رئيس أميركي جديد القفز فوقه». ونقلت الصحيفة عن مسؤول أميركي سابق أن هذا المشهد الجديد «سيجعل فترة ربع القرن التي تلت الحرب العالمية الثانية في المجال النووي مجرد استراحة وقد انتهت مفاعيلها الآن».
الوثيقة لم تشر بوضوح إلى مسألة الحرب النووية التكتيكية المحدودة؛ لكن ريتشارد هاس، الرئيس الفخري لمجلس العلاقات الخارجية الأميركية، تحدّث بحماسة عن ارتفاع نسبة احتمال نشوب الحرب المحدودة النووية في الحرب الأوكرانية إلى 50% وما فوق. أضاف: «نتعامل الآن مع روسيا أشد راديكالية، ما يلغي الفكرة بأن عدم استخدام الأسلحة النووية (من قبل روسيا في أوكرانيا) فرضية سليمة».
خلاصات خطيرة أليس كذلك؟
حتماً. وما يفاقم من هذه الخطورة أنه يبدو أن إدارة بايدن تبذل منذ سنتين كل ما وفي وسعها لدفع روسيا إلى استخدام الأسلحة النووية التكتيكية في الحرب، من تزويد كييف بأسلحة متطورة إلى اختراق واحتلال أراض روسية للمرة الأولى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وهنا، ثمة سؤال افتراضي ولكنه مخيف: هل يحتمل أن تكون واشنطن قد زوّدت كييف بأسلحة نووية تكتيكية أو بالمواد لصنعها (علماً أن أوكرانيا تمتلك كل التقنيات النووية منذ عهد الاتحاد السوفياتي). وبالتالي، هل تهدف أميركا من وراء نبش مبدأ الحرب النووية المحدودة العمل على تدمير روسيا بأيد نووية أوكرانية (ومعها بالطبع التضحية بالحليف الأوكراني)؟
هنا، من المفيد أن نعيد إلى الأذهان أن أوكرانيا كانت عام 1994 ثالث قوة نووية في العالم. وهي تخلّت في مذكرة بودابست في ذلك العام عن ترسانتها النووية بضغط من روسيا والولايات المتحدة مقابل حصولها على ضمانات أمنية. وفي عام 1996، خسرت أوكرانيا وضعيتها النووية حين سلمت آخر سلاح نووي لديها، أو هكذا قيل آنذاك. كانت أوكرانيا تنتج هذه الأسلحة، وبالتالي فهي حائزة على المعرفة النووية الضرورية لصنع القنبلة. كما كان في حوزتها أيضاً قنابل نووية تكتيكية قيل أيضاً إنها أزيلت عام 1992.
كما واضح من هذه السياقات أن العالم يتعاطى مع معطيات نووية في أوكرانيا غاية في الخطورة، خاصة إذا ما كانت الولايات المتحدة (كما أسلفنا) تحبّذ الدمار النووي المشترك لروسيا وأوكرانيا معاً، طالما ذلك يعزّز قبضتها على قارة أوراسيا ويساعدها لاحقاً على الانقضاض على الصين عسكرياً وتكنولوجياً.
قد يكون كل ما أوردناه مجرد افتراضات وإن كانت مستندة إلى وقائع. لكنْ هنا، ثمة شيء مؤكد حقاً لا نقوله نحن بل يقوله مفكرون وسياسيون أميركيون عديدون، منهم سابقاً أيزنهاور وجون كيندي (وأخيراً روبرت كيندي جونيور)، قوامه: الاقتصاد الأميركي برمّته يبقى دوماً اقتصاد حرب ويحتاج إلى الحرب أو الاستعداد لها كي يبقى على قيد الحياة. والآن، يبدو واضحاً أن الأسلحة النووية وسباق التسلح النووي (الذي يترجم نفسه بالدعوة إلى الحرب النووية التكتيكية) باتت للمرة الأولى منذ الحرب الباردة جزءاً من اقتصاد الحرب هذا وجزءاً من استراتيجيته.
* مدير منتدى التكامل الإقليمي