تراوح المفاوضات حول اتفاق لوقف الحرب في غزة مكانها منذ أشهر، لكن الولايات المتحدة تزعم فجأةً أن تقدّماً ما يحصل. يتّضح لاحقاً أنّ التقدّم هو تقديم نتنياهو شروطاً جديدة، تجعل أي اتفاق بالنسبة إلى حماس بمثابة استسلام. لا تضغط أميركا على نتنياهو للعودة إلى مقترحها السابق، وتفضّل تحميل حماس مسؤولية عدم الوصول إلى اتفاق. يقول البعض إن الإدارة الأميركية ضعيفة، ونتنياهو بخبرته الطويلة قادر على التلاعب بها، لكن هذا قد يصحّ في بعض التفاصيل، غير أن المنحى العام منذ السابع من أكتوبر يشير إلى أن هذه الإدارة تريد استمرار الحرب، وهي ليست معنية بالضغط لوقفها، بل بإفساح المجال والوقت لإسرائيل لإنجاز مهمتها في غزة، وتوفير الظرف الإقليمي المناسب لتحقيق أهداف إسرائيل من هذه الحرب.تصرّ حكومة نتنياهو على إطالة أمد الحرب، بما يكسر التمسك التقليدي الإسرائيلي بالحروب الخاطفة والسريعة. يُفسَّر هذا الإصرار عادةً بخوف نتنياهو على مستقبله السياسي في حال انتهاء الحرب، لكن المسألة أكبر من ذلك، إذ هي متعلقة بسعي النخبة الحاكمة الإسرائيلية إلى تأجيل اشتباك داخلي طاحن في الكيان الصهيوني مع نهاية الحرب، والتخفيف من وطأته عبر تحقيق إنجاز في الحرب يمر عبر إطالتها، أملاً بالوصول إلى لحظة انهيار للمقاومة في غزة.
لا يهدف نتنياهو من استمرار العمل العسكري في القطاع إلى تحرير الأسرى، فهذا أمر ثانوي بالنسبة إليه. الهدف الأساسي هو إبطال مفاعيل عملية «طوفان الأقصى»، باستعادة هيبة الردع التي انكمشت بفعل «الطوفان»، واستعادة ثقة المستوطنين التي اهتزت بقدرة جيشهم على حمايتهم. هذا ما يدفع الحكومة الإسرائيلية إلى محاولة فرض معادلة ردع جديدة في كل جبهات المنطقة، والعمل على إبقاء هيمنة إسرائيل على التصعيد في هذه الجبهات. ترميم الردع يساعد في استعادة ثقة المستوطنين، وهذا يترجم من خلال ارتكاب المجازر وتدمير البنية التحتية في غزة، والتلويح بـ«اليد الطولى» لإسرائيل في المنطقة عبر التصعيد في جبهات الإسناد.
تتشارك الولايات المتحدة مع إسرائيل في السعي لإبطال مفاعيل «طوفان الأقصى». تعتبر أميركا إسرائيل رأس حربة هيمنتها في المنطقة، واستثماراً استراتيجياً ينبغي الدفاع عنه. كان هذا يعني أن ترمي الولايات المتحدة بثقلها بعد السابع من أكتوبر لمساعدة إسرائيل في إعادة تأهيل قدرتها الردعية، وعملها لإثبات أن «الطوفان» كان فلتةً وليس تعبيراً عن خلل عميق في نظرية الأمن الإسرائيلية. هذه المساعدة ليست رعايةً ودعماً سياسياً وعسكرياً وحسب، وإنما هي أيضاً عمل مستمر على تفريغ إسرائيل لمهمة تدمير غزة والمقاومة فيها، بالضغط من أجل إنهاء عمل جبهات الإسناد، والحدّ من تأثيرها على الكيان الصهيوني.
مع ذلك، تريد الإدارة الأميركية في الوقت الحالي الوصول إلى اتفاق في غزة لدواعٍ انتخابية، لكن ليس ضرورياً أن يكون اتفاقاً على وقف دائم لإطلاق النار، بل يكفي أن يؤدي إلى هدنة تتخللها عملية تبادل للأسرى، ما يساعد إدارة بايدن على تسويق استعادة الأسرى الإسرائيليين مع وجود هدنة مؤقتة كإنجاز في السباق الانتخابي الأميركي، لذلك لا يحرص الأميركيون كثيراً على الضغط باتجاه وقف الحرب، وهم يتفهمون رغبة نتنياهو في العودة إلى الحرب بعد الهدنة وتحرير الأسرى، وإذا أمكن الوصول إلى وقف إطلاق نار بخضوع كامل من حماس، فهذا إنجاز آخر.
لا ينفي هذا وجود خلاف أميركي عميق مع نتنياهو، يرتكز في الأساس على الاختلاف حول «اليوم التالي» للحرب، والسبيل الأمثل لإنهاء القضية الفلسطينية، ففيما يرفض نتنياهو أي حل سياسي يؤدي إلى دولة فلسطينية مهما كانت الضمانات لأمن إسرائيل، وهو يعبّر في هذا عن موقف غالبية الإسرائيليين. تريد واشنطن إنهاء القضية بقيام دولة المعزل الفلسطينية الحارسة لأمن إسرائيل، وترى أن أي إنجاز ميداني إسرائيلي في الحرب يجب تتويجه بحل سياسي، وإلا فقد معناه. لكن، في ما يخص استعادة إسرائيل للردع، فإن أميركا تغطي كل الخطوات الإسرائيلية في هذا الاتجاه، حتى لو أدت إلى توسيع نطاق الحرب القائمة، وهو الأمر الذي أكدت أميركا مراراً عدم رغبتها فيه.
بالفعل قد لا ترغب أميركا في توسع الحرب والانجرار إليها، ولديها ما تخسره في حرب إقليمية، لكن شعورها بالتهديد لهيمنتها في العالم (في حالة منطقتنا تهديد تفوّق إسرائيل)، قد يدفعها إلى المغامرة بخطوات غير محسوبة، أو دعم مغامرات إسرائيلية، وخاصة مع اعتقادها ببقاء تفوقها على أعدائها، رغم تقلص قوتها وتزايد قوتهم في السنوات الأخيرة. يؤكد هذا ما نراه من تصعيد أميركي تجاه الصين اتخذ شكل استراتيجية نووية لردع الصين من توسيع ترسانتها النووية، وما نشهده من اندفاع أميركي دون كلل لدعم أوكرانيا في الحرب مع روسيا، إلى درجة غزو الأراضي الروسية.
تأمل أميركا باستعادة إسرائيل قدرتها على أداء وظيفتها، ما يجعل ردع أعدائها في المنطقة مطلباً أساسياً في الحرب. وعدم قدرة إسرائيل على فرض معادلات ردع جديدة تؤكد تفوّقها، يعني تحويل هذه الحرب إلى هزيمة استراتيجية كبيرة لإسرائيل، تظهر مفاعيلها بعد نهاية الحرب تقلّصاً في وزن هذا الكيان إقليمياً وتزايداً في تناقضاته الداخلية. في إطار الاندفاع الأميركي الإسرائيلي لمنع هزيمة استراتيجية، تصبح احتمالات التصعيد في الإقليم أكبر، لكن السماح لإسرائيل بفرض معادلات ردع جديدة سيكون خطيراً حاضراً ومستقبلاً.
* كاتب عربي