يكثر الحديث عن سيناريوهات الحرب الإقليمية الشاملة وعن جهود ومساع لتفاديها، ويتواصل الكلام عن اليوم التالي وعن التوترات الداخلية في إسرائيل، وتنتهي النقاشات عادة بطرح سلسلة من علامات الاستفهام وعدم اليقين. الأمر الحاضر المؤكّد هو أن حرب الإبادة الجماعية والدمار الشامل على غزة لا تتوقّف، وتتواصل فيها المجازر والتدمير والتهجير، ويستمر جيش الاحتلال الإسرائيلي في فرض واقع حياتي رهيب على الباقين على قيد الحياة في غزة. وحين يُطرح السؤال إلى متى؟ يعد نتنياهو بالمزيد، وربّ صادٍ لا يروه المزيد!
غزة فوق سقف الحرب
ما يجري في غزة هو أكثر من حرب، فمهما وسّعنا مفهوم هذه الكلمة، تبقى دلالاتها أضيق من حجم وفظاعة الجريمة الكبرى التي ترتكبها الدولة الصهيونية في قطاع غزة. فقد زادت نسبة الشهداء في غزة عن 2% من السكّان وإذا أضفنا المدفونين تحت الأنقاض والموتى، نتيجة تدهور العلاج والبيئة الصحية، فستغدو النسبة أكبر بكثير. والمصيبة أن حالة المعاناة الرهيبة ستبقى لفترة طويلة حتى لو توقّفت الحرب، إذ أشارت دراسات نشرت في أهم المجلات الطبية في العالم، إلى أن عدد الضحايا قد يصل في السنوات المقبلة إلى نسبة 10% من سكّان غزة، نتيجة ما زرعته الحرب من أمراض ومن خراب. الأوضاع في غزة ستبقى كارثية، حتى لو جرى التوصّل لاتفاق لوقف إطلاق النار، وإن كانت المعاناة ستخف فهي ستبقى لسنوات بمستوى لا يتحمّله بشر.
طالما بقي قرار مواصلة حرب الإبادة والدمار، إسرائيليا، فالحرب ستتواصل لسنوات. يكفي النظر في الشروط التي وضعها نتنياهو في خطابه المشؤوم في اجتماع كونغرس التصفيق الأمريكي: أولا، القضاء على حماس، ثانيا، ضمان أن تكون غزة منطقة منزوعة السلاح، ثالثا، إعادة المحتجزين ورابعا، اجتثاث التطرّف. والشرط الرابع تحديدا هو من النوع الذي يمنح إسرائيل إمكانية مواصلة الحرب بلا حدود.
كيف بالضبط ستقوم الدولة الصهيونية باجتثاث التطرّف؟ ما طُرح إسرائيليا هو تغيير مناهج التعليم وصهينتها، ومراقبة وسائل الإعلام وما تنشره، وضمان حدوث تغيير جذري في قبول أهل غزة للدولة الصهيونية بلا علاقة بمعاناتهم منها. طبعا هذا مستحيل، وعندها يأتي الرد الإسرائيلي: إذا لم تقتنع فارحل! وهكذا يتحول مشروع «اجتثاث التطرف» إلى أداة من أدوات التطهير العرقي والحرب الدائمة. ما يجري علميا هو تحضير الأرضية لفرض احتلال طويل الأمد على غزة لتحقيق الأهداف «المستحيلة»، وهذا يعني لسنوات. ولا يغّير في هذا الاتجاه أن الجيش ليس متحمسا لهذه الفكرة، فالمستوى السياسي، وبالأخص غالانت ونتنياهو، سيفرضه على المستوى العسكري.
في المحصلة الراهنة حرب الإبادة والتدمير والتطهير العرقي في غزة مستمرة في ميادين تتجاوز سقف الحرب التقليدية، في سبيل تحقيق أهداف الغزاة، ويبدو أن هذه الأهداف صعبة المنال، إن لم تكن من المحال. أمّا المفاوضات وإمكانيات التوصل إلى صفقة تبادل تشمل وقفا لإطلاق النار، فهي محصورة عمليا بالإطار الذي فرضه نتنياهو وهو مرحلة أولى من الصفقة ووقف مؤقت لإطلاق النار لمدة شهر ونصف الشهر على الأكثر. هذا في أحسن الأحوال.
أمّا في الواقع فلا يبدو أن هناك تزحزحا في الموقف الإسرائيلي الرسمي، الرافض للصفقة التي اقترحتها إسرائيل نفسها ووافقت عليها حركة حماس. وما نشهده من جولات تفاوض ومن تصريحات أمريكية وعربية وحتى إسرائيلية لا تعدو كونها «غيوم ورياح ولا مطر»، كما جاء في الكتاب المقدس. ولعل من أهم أسباب انتخاب يحيى السنوار رئيسا للمكتب السياسي لحركة حماس، خلفا لإسماعيل هنية، أن قيادة حماس تعي حقيقة الأمر، بأن الحرب مستمرة، وأن مركز الثقل هو المواجهة العسكرية في غزة وليس الحركة الدبلوماسية في الخارج.
الأوضاع في غزة ستبقى كارثية، حتى لو جرى التوصّل لاتفاق لوقف إطلاق النار، وإن كانت المعاناة ستخف فهي ستبقى لسنوات بمستوى لا يتحمّله بشر
المنطقة تحت عتبة الحرب إضافة إلى ما يحدث من أهوال في غزة، صعّدت إسرائيل المواجهة مع حزب الله وإيران واليمن. يبدو ظاهريا أنّها أربع جبهات، لكنّها في الحقيقة جبهة واحدة هي غزة والباقي مرتبط بها. فقد أعلن كل من هاجم إسرائيل في الأشهر الماضية، أنه سيلتزم بوقف إطلاق النار، إذا توقّفت الحرب على غزة. يكفي وقف النار في غزة لتهدأ الأمور على الجبهات كافة. والعكس صحيح، إذا واصلت إسرائيل عدوانها على غزة، فسوف تتكثّف المواجهات الإقليمية وستدفع استفزازاتها في لبنان وإيران واليمن باتجاه تصعيد وتوسيع رقعة الصدام العسكري.
لقد أدّت الاعتداءات الإسرائيلية إلى انتقال المواجهة مع الأطراف الإقليمية الثلاثة، حزب الله وإيران واليمن، من الالتزام باعتبارات المساندة إلى بدء العمل، وفق منطق الحسابات المباشرة المفتوحة. جاء ذلك بعد أن قصفت إسرائيل ميناء الحديدة في اليمن، وجعلت القيادة اليمنية تتعهد بالانتقام لاستهداف مرافق ومواطنين في اليمن. وأتى بعدها اغتيال القيادي في حزب الله فؤاد شكر في قلب الضاحية الجنوبية في العاصمة اللبنانية، ولم يترك ذلك لقيادة حزب الله من خيار سوى الوعد بالرد والوعيد لإسرائيل بأنه سيكون ردا قويا موازيا يتجاوز حدود الاقتتال تحت عتبة الحرب ضمن حدود «جبهة المساندة»، التي حرص حزب الله على الالتزام بها الى الآن.
وفي الليلة ذاتها اغتالت إسرائيل الأخ إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، وهو في ضيافة الحرس الثوري في العاصمة الإيرانية، ما استدعى إطلاق توعّد إيراني رسمي بتوجيه ضربة موجعة لإسرائيل، التي اعتدت على شخصية قيادية وهي في ضيافة الجمهورية الإسلامية.
الرد والرد على الرد
يسود إجماع في إسرائيل على أنه سيكون هناك رد من حزب الله ومن إيران ومن اليمن على الاعتداءات الإسرائيلية، وهناك قناعة شاملة بأن الردود ستكون قوية لكنّها لن تجتاز حافة الحرب الشاملة، ولن تخرج عن إطار «معارك تحت عتبة الحرب». ويدور بين نخب الدولة الصهيونية نقاش حول كيفية الرد على الرد؟ وبما أنّه ليس من المعروف موعد ومدى وطريقة الردود المتوقّعة، فإن اتجاه الرياح في إسرائيل هو اعتماد قاعدة بأن يكون الرد الإسرائيلي على هجوم يمني أو لبناني أو إيراني، أقوى من الهجوم عليها. في المقابل تتزايد الأصوات الداعية إلى عدم الانتظار لأن الرد يعني أن فشل الردع ما يستدعي الانتقال «من الردع إلى المنع» وتوجيه ضربات استباقية صاعقة، تفقد «الطرف الآخر» الرغبة أو القدرة على مهاجمة إسرائيل.
هناك أيضا من يطالب باعتماد «عقيدة آيزنكوت»، واعتبار الشروع بشن هجوم على إسرائيل سببا «شرعيا» لرد إسرائيلي فوري من الوزن الثقيل. وكان الجنرال آيزنكوت قد اقترح في أبريل الماضي الرد فورا على الهجوم الصاروخي الإيراني حال انطلاقه وقبل أن يصل إسرائيل.
تتوعد إسرائيل بشن هجوم كاسح على لبنان، إذا جاءت ضربة حزب الله قوية وسببت أضرارا كبيرة، لكنّ الداعين إلى استغلال هجوم حزب الله لشن حرب شاملة هم أقلية في النخب الإسرائيلية، والسبب أن شروط المبادرة لحرب على لبنان غير متوفّرة الآن، وهناك ميل للتريث والعمل على توفيرها لاحقا والقيام بالحرب بعدئذٍ.
ومن هذه الشروط: شرعية دولية، شرعية داخلية، شبكة دعم أمريكي عسكري وسياسي واقتصادي، توفّر الأسلحة والذخائر، تحمل العبء الاقتصادي، جهوزية الجيش، جهوزية الجبهة الداخلية واعتماد عنصر المفاجأة. ومن الواضح أن هذه الشروط مجتمعة ليس حاضرة، وعليه من المستبعد جدا أن تستغل إسرائيل رد حزب الله للرد بشن حرب شاملة على لبنان. ما هو ممكن فعلا أن تستغل إسرائيل الوضع للتصعيد ولخلق أزمة تستدعي تدخلا دوليا لحلها، لكنها تعرف جيدا أن الحل في لبنان، مهما كانت طبيعته، مرتبط بوقف الحرب على غزة.
بين الغرور والخوف
ثنائية الغرور والخوف هي من أهم مركبات نفسية العدوان الإسرائيلية، وهي موجودة بقوة في أوساط القيادة والنخب والمجتمع بأسره. تلعب هذه الثنائية دور الحاجز في منع التوصل إلى تسوية سياسية متوازنة، فمع ارتفاع منسوب الغرور، تشعر إسرائيل بأنها تسيطر على الأمور ولا حاجة لتقديم «تنازلات» في سبيل إنهاء الصراع، وحين تجتاح مشاعر الخوف الدولة الصهيونية يأتي الادعاء بأنه يجب العمل على الحماية من التهديدات لا «المغامرة» في التوصل إلى اتفاق مع من يهددك.
المعادلة نفسها تعمل في ظروف المواجهة الحالية، فالغرور والاستهتار بالآخر جعلا الجيش الإسرائيلي يستبعد هجوم حماس، فدفعت إسرائيل الثمن. وعند تنفيذ الاغتيالات شعرت إسرائيل قيادةً ومجتمعا بالغرور على اعتبار أنها استعادت قسطا كبيرا من الردع والثقة بالنفس، وأن الأطراف الأخرى تلقت ضربات موجعة قد تجعلها تصاب بالشلل. وكتب الكاتب الصحافي الإسرائيلي ب. ميخائيل، أن «هناك في متعة الاغتيال هذه: عجرفة وغطرسة وصلف وغرور وعنصرية، وهي صفات يتميّز بها المحتلون مثلنا».
بعد أيام قليلة من طوفان الغرور الإسرائيلي، جاءت موجة خوف عاتية من ردود إيران وحزب الله واليمن. المشكلة أن إسرائيل تطلق النار وهي في سكرة الغرور، وتقذف اللهب عندما تصيبها نوبات الخوف. وفي كلتا الحالتين هي حريصة على إبقاء غزة فوق سقف الحرب العادية والمنطقة تحت عتبة الحرب الشاملة.