في إطار جولة تفاوضية جديدة، ودون وجود أفق لتحقيق أي اختراق فيها، جاء وزير الخارجية الأميركي للمنطقة، للمرة التاسعة خلال أشهر حرب الإبادة التي يشنها كيان الاحتلال على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، مع عدم قدرة بلاده على إخفاء انحيازها الأعمى ودعمها المفتوح للاحتلال.
جاءت المفاوضات الجارية حالياً بمبادرة أميركية، في محاولة لتجنب انزلاق المنطقة إلى حرب إقليمية أوسع، فجاء هدفها المعلن بالدعوة للوصول إلى صفقة لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى. ورغم أن جولة المفاوضات الجارية حالياً لا تختلف في الهدف عن جولات سابقة، عقدت على أساس الخطة التي عرضها الرئيس الأميركي جو بايدن نهاية أيار الماضي، والتي قبلت بها حركة «حماس»، إلا أن تعديلات نتنياهو عليها بعد ذلك وفي كل مرة يتم طرحها، يجعل إمكانية الوصول لاتفاق بعيدة، بما فيها هذه المرة.
ومن بين أهم القضايا التي تشكل نقطة خلاف محورية حتى اللحظة تمسك نتنياهو بإبقاء محور صلاح الدين «فيلادلفيا» الحدودي مع مصر تحت السيطرة الإسرائيلية، والذي لم يكن تحت سيطرة الاحتلال عندما وضع بايدن خطته للمفاوضات، بالإضافة إلى قضايا أخرى من بينها إحكام السيطرة الإسرائيلية على محور أقامه الاحتلال، يفصل شمال القطاع عن جنوبه، وإخضاع المواطنين الفلسطينيين للتفتيش في حال رغبتهم بالعودة لبيوتهم في شمال القطاع، والتدخل في قوائم ومصير الأسرى الفلسطينيين التي حددتها حركة «حماس». فما سر تمسك الاحتلال بمحور صلاح الدين؟
يعتبر محور صلاح الدين شريطاً حدودياً عازلاً، يقع داخل الأراضي الفلسطينية، وفق الخطوط التي رسمها الانتداب البريطاني. ويمتد طوله حوالى ١٤ كيلومتراً، من بحر قطاع غزة في أقصى الجزء الجنوب الغربي حتى الجزء الجنوبي الشرقي للقطاع، ونقطة الالتقاء مع صحراء سيناء، والمعروفة بمعبر كرم أبو سالم، ولا يتجاوز عرض المحور بضع مئات الأمتار. واعتبرت اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل الموقعة في العام ١٩٧٩ أن محور صلاح الدين منطقة عازلة، تخضع للسيطرة الإسرائيلية، وصنفت بالمنطقة (د) في الاتفاق، والذي نص على تواجد قوات الاحتلال في المحور ضمن قدرات محددة، حدد قوامها بـ ١٨٠ مركبة مدرعة، وأربعة آلاف عنصر، ومنشآت عسكرية وميدانية، وتلاصقها منطقة منزوعة السلاح على الجانب المصري، صنفت بالمنطقة (ج)، سمح الاتفاق بوجود عناصر شرطة مدنية مصرية مسلحة بأسلحة خفيفة. وبقي الوضع على ما هو عليه بعد توقيع اتفاقيات أوسلو، فبقيت السيطرة الأمنية على حدود غزة، كما الضفة الغربية للاحتلال.
وصادق الكنيست على بروتوكول فيلادلفيا، لكن عارضه نتنياهو والأحزاب الدينية والمتطرفة في حينه، والتي تقف على رأس الحكم اليوم، واعتبر نتنياهو ذلك التصديق من الكنيست بمثابة إقرار بحدود ١٩٦٧.
أقر الكنيست قرار انسحاب أحادي الجانب من قطاع غزة في العام ٢٠٠٤، ودخل حيز النفاذ في آب من العام التالي. ونصت خطة «فك الارتباط» على احتفاظ إسرائيل «بوجود عسكري لها على طول الخط الحدودي الفاصل بين قطاع غزة ومصر أي محور صلاح الدين. في العام ٢٠٠٥، وبعد انسحاب الاحتلال أحادي الجانب من غزة، سلّم الاحتلال السلطة الفلسطينية إدارة معبر رفح، برقابة أوروبية، بعد توقيعه معها اتفاقية المعابر والحدود. وفي الشهر التالي وقّع الاحتلال على بروتوكول فيلادلفيا مع مصر، ولا يغير هذا البروتوكول، الذي يعتبره الاحتلال ملحقاً أمنياً لاتفاقية كامب ديفيد ومحكوماً بمبادئها العامة وأحكامها، حالة المنطقة المصرية الحدودية المنزوعة السلاح المصنفة في معاهدة كامب ديفيد بالمنطقة (ج)، الملاصقة لمحور صلاح الدين العازل. ويقوم البروتوكول على أساس تنسيق مصري إسرائيلي، يسمح بوجود قوات مصرية من حرس الحدود غير العسكرية، عددها ٧٥٠ عنصراً، عدد منهم مسلح بأسلحة خفيفة، وعدد محدد من العربات المدرعة، تنتشر على طول محور صلاح الدين الحدودي لحفظ الأمن، ومنع التهريب والتسلل. فاحتفظ الاحتلال بالسيطرة العسكرية الفعلية، ومنح لمصر مراقبة أمنية محدودة على المحور، دون تواجد ظاهر. بعد عامين على استلام مصر لمحور صلاح الدين، قام الاحتلال ببناء جدار لعزل المحور نهائياً عن مصر، بعد سيطرة حركة «حماس» على معبر رفح، التي قامت بإدارته بالتنسيق مع السلطة الفلسطينية. وبعد احتلال محور صلاح الدين بعد «طوفان الأقصى» تراجع الاحتلال عن تفاهم تم توقيعه مع مصر في العام ٢٠٠٥، وعاد للسيطرة على المحور.
أعلن جيش الاحتلال في ٢٩ أيار الماضي استكمال سيطرته العسكرية الكاملة على المحور. وكانت النية مبيّتة للاحتلال للقيام بذلك منذ شن هجومه على غزة. فتكررت الاعتداءات على المحور، وقصفت دبابة للاحتلال برج مراقبة مصرياً في تشرين الأول الماضي، وشنت القوات الجوية للعدو هجوماً على طول المحور في كانون الأول الماضي. وأعلن نتنياهو أكثر من مرة منذ بدء الحرب عن رغبة حكومته بالسيطرة على محور صلاح الدين، معتبراً المحور بالثغرة التي يجب إغلاقها، ومؤكداً أن أي ترتيب آخر لن يضمن نزع سلاح الفصائل في غزة ولن يكون مقبولاً، وأن استمرار سيطرة إسرائيل على محور صلاح الدين أحد شروط أي صفقة ممكنة. وأكد موقع «أكسيوس» الأميركي تصريحات لـنتنياهو بعدم نيته الانسحاب من المحور لأهميته العسكرية والإستراتيجية.
وفي شباط الماضي، كشفت القناة «13» العبرية عن رغبة حكومة نتنياهو في نقل موقع معبر رفح، ليكون بالقرب من معبر كرم أبو سالم التجاري. وخلال المفاوضات الجارية حالياً، أكد ديفيد منسر، المتحدث باسم الحكومة الإسرائيلية، الاثنين الماضي، أن إسرائيل ستبقى في محور صلاح الدين، لضمان عدم نقل الأسلحة إلى حركة «حماس» في قطاع غزة. وجاءت هذه التصريحات بعد بيان صدر عن مكتب نتنياهو، في أعقاب وصول بلينكن إلى تل أبيب، شدد على بقاء جيش الاحتلال في محور صلاح الدين.
وقدم المفاوضون الإسرائيليون مؤخراً خارطة تظهر تخفيض عدد قوات الاحتلال في محور صلاح الدين دون سحبها. ونقلت صحيفة «نيويورك تايمز» عن مسؤولين أميركيين، مطلعين على مفاوضات وقف إطلاق النار الحالية في غزة، أن الاقتراح الأميركي الجديد للتوصل إلى اتفاق لإطلاق سراح المحتجزين ووقف إطلاق النار من شأنه أن يسمح للقوات الإسرائيلية بمواصلة دورياتها في جزء من محور صلاح الدين. وهذا الموقف الأميركي يفيد صراحة بتماهيه مع رغبة الاحتلال بإعادة السيطرة على محور صلاح الدين، وفق تفاهمات معاهدة كامب ديفيد، والسيطرة الإسرائيلية إدارياً وعسكرياً على الحدود الفلسطينية الجنوبية مع مصر.
شهدت الأسابيع الماضية حالة من التوتر بين مصر وإسرائيل، فرفض الرئيس المصري تلقي مكالمة هاتفية من نتنياهو، وثمّنت حركة «حماس» الموقف المصري الرافض للوجود العسكري الإسرائيلي في محور صلاح الدين، ونفى بيان عن الجهاز الحكومي المسؤول عن الإعلام الأجنبي في مصر الادعاءات الإسرائيلية حول وجود عمليات تهريب للأسلحة والمتفجرات إلى قطاع غزة من الأراضي المصرية عبر أنفاق زعم الاحتلال بوجودها على جانبي الحدود. وكانت مصر قد شنت حملة لتدمير الأنفاق في أعقاب الإطاحة بالرئيس المصري السابق محمد مرسي، وبنت جداراً فاصلاً، وأزالت منازل ومزارع بمدينة رفح المصرية وقراها، وأقامت منطقة حدودية عازلة تمتد حوالى خمسة كيلومترات في عمق سيناء.
يشكل وجود الاحتلال في محور صلاح الدين اليوم انتهاكاً لاتفاقية كامب ديفيد للسلام ولبروتوكول فيلادلفيا الموقع في العام ٢٠٠٥. وتحدد معاهدة كامب ديفيد حدود التواجد الإسرائيلي في المنطقة العازلة، وفق عدد قوات وعتاد محدد يتخطاه الاحتلال اليوم، وهو ما لا يمكن تجاوزه أو تغييره إلا باتفاق الطرفين، كما جرى في بروتوكول فيلادلفيا. وتعدى هجوم الاحتلال على محور صلاح الدين في هذه الحرب على تفاهمات فيلادلفيا، والتي سمحت لقوات شرطية مصرية بالتواجد في المحور لحفظ الأمن.
وعليه يعتبر تعدي الاحتلال على المحور انتهاكاً لاتفاقية كامب ديفيد وبنود بروتوكول فيلادلفيا. كما أن تصريحات قادة الاحتلال بإمكانية خفض قواتها المتواجدة في المحور اليوم، وهو ما وافقت عليه واشنطن أيضاً، يعني استمرار الحالة التي أرستها اتفاقية كامب ديفيد مع مصر، الأمر الذي يعيد وضع الحدود الفلسطينية تحت السيطرة العسكرية والأمنية الإسرائيلية، بعد أن سلّمت مصر المسؤولية الأمنية بالتنسيق مع الفلسطينيين.
إن ذلك يستشرف نية الاحتلال بسحب ما أرسته اتفاقية أوسلو بمنح إدارة المناطق للسلطة الفلسطينية في غزة والضفة، وبعض جوانب حفظ الأمن، والذي يؤكد أن المؤامرة ضد غزة تأتي في سياق أوسع.