كما كان متوقّعاً، قرّر الوسطاء في الدوحة تمديد العملية التفاوضية، التي بدأت على وقع الضغوط والخشية من التصعيد الإقليمي، ونقلها إلى القاهرة، حيث يُنتظر عقد جولات جديدة لا يُعلم إلى أين ستصل، بعدما قرّر الوسطاء أنفسهم أن المسار التفاوضي الحالي «بنّاء» ويستأهل المتابعة، وأن على حركة «حماس» أن تُذعن للتعديلات التي أُدخلت على اقتراح التسوية الأول، والذي تراجعت عنه تل أبيب. وفي المقابل، يشير الواقع إلى نيّات تسويفية، بعد أن تبيّن أن أهم الخلافات التي حالت دون الاتفاق في الأشهر الأخيرة، لم تسلك طريق التسوية، وفي المقدّمة انسحاب الاحتلال من ممر «نتساريم» في وسط قطاع غزة، ومحور «فيلادلفيا» على الحدود مع مصر، في حين أن مسألة الامتناع عن العودة إلى الحرب، بعد انتهاء المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار المؤّقت، ما زالت بلا التزام فعلي يمكّن الجانب الفلسطيني من القبول بتسويات.وجولة القاهرة التي تقرّر أن تبدأ الأربعاء المقبل، تنتظر نتيجة زيارة وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، الذي وصل إلى إسرائيل، أمس، لتسريع إنجاز الاتفاق حول القضايا العالقة، وتحديداً «نتساريم» و«فيلادلفيا». وبحسب التسريبات، فقد استطاعت الإدارة الأميركية «انتزاع» قبول إسرائيل بالانسحاب من «نتساريم»، على أن يصار إلى إيجاد آلية ناجعة ترضى بها الأخيرة، وتمنع بموجبها «السلاح والمسلحين» من العودة إلى شمال قطاع غزة، وهو ما ينسحب نسبياً على الحد الجنوبي في محور «فيلادلفيا»، إذ تلقّت واشنطن إشارات من تل أبيب إلى إمكانية الانسحاب الجزئي، مع إبقاء جزء من القوات هناك، لمنع ما تسميه إسرائيل «تهريب السلاح والمسلحين» وكل ما يفيد حركة «حماس» في إعادة ترميم قدراتها.
أيضاً، تسعى الولايات المتحدة إلى الترويج لـ«إنجاز» آخر، حقّقته لدى الجانب الإسرائيلي، وهو «مرونة» في ما يتعلق بعدد وهويات الأسرى الفلسطينيين الذين تتضمّنهم المرحلة الأولى من صفقة التبادل، وكذلك الحال في ما يتعلق بعمليات الإغاثة ودخول المساعدات الإنسانية إلى القطاع. على أن هذا «الإنجاز» لا يقدّم الكثير للجانب الفلسطيني، الذي يشترط إنهاء الحرب وعدم العودة إليها، كما انسحاب القوات الإسرائيلية من القطاع، قبل أن يتخلّى عن ورقة الأسرى، سواء حصل تبادل على دفعة واحدة أو دفعتين، وإن كان التركيز الأميركي خلال المفاوضات، ينصبّ على الدفعة الأولى من التبادل، من دون الدفعة الثانية والأخيرة، وهو ما يحمل أكثر من علامة استفهام عن مصير وقف إطلاق النار، بعد انتهاء التهدئة والعودة الاسمية إلى التفاوض على المرحلة الثانية.
وتوحي التصريحات والمواقف الأميركية، ونسبياً ما يرد من تل أبيب، بتفاؤل مبالغ فيه، على رغم أن الهوّة شاسعة جداً بين الجانبين. إلا أن هذه المبالغة ربما تفيد بأن الجانب الأميركي جدّي أكثر من ذي قبل، وهو يريد التوصل إلى اتفاق، وإن كان يعمل منذ أن بدأت العملية التفاوضية في الدوحة أخيراً، على الضغط بمعية الوسطاء الآخرين، على حركة «حماس» لتتراجع عن مواقفها وثوابتها، الأمر الذي يُنتظر أن تضطلع به الدوحة تحديداً، التي تلقّت البنود المعدّلة أميركياً لنقلها، مع ضغوط، إلى الحركة في غزة. فهل سيتوصّل الوسطاء وإسرائيل إلى اتفاق يتضمّن تعديلات على اقتراح الرئيس الأميركي، جو بايدن، ثم يجري العمل على فرضه لاحقاً على حركة «حماس»؟ يبدو أن ثمة توجهاً لتحقيق هذا الهدف، وإن كانت الحركة تعلن منذ أيام أنها لن تقبل بتسويات شكلية لا تراعي مطالبها، ما يعني أن جولة القاهرة، كما يتسرّب عن الجانب الأميركي، ستنشغل بتلقّي الرفض الفلسطيني، وإن كان يراد لها أن تشكل مجرّد جولة تفاوض على تفاصيل ما سيُتّفق عليه بين أميركا وإسرائيل، بنتيجة زيارة بلينكن لتل أبيب.
الاتفاق على صفقة تبادل هو الوصفة الوحيدة التي تكفل منع الحرب في الإقليم
مع ذلك كله، وفي حال جرى التوصّل إلى اتفاق في القاهرة، فإن السؤال الذي لا يغادر طاولة التقدير يبقى على حاله، وتنقصه الإجابات: هل يقبل رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، باتفاق يهدّد حكومته وائتلافه مع الفاشيين، بعد أن قرّر الأخيرون سلفاً أنهم سينسحبون من الحكومة لحظة إعلان الاتفاق مع حركة «حماس» على صفقة تبادل الأسرى؟ وهل يقوى على ذلك، في ظل بدء أعمال وإجراءات قضائية، وإن شكلية في هذه المرحلة، تتعلّق بمحاكمته في أكثر من ملف، وهو ما يذكّره بالمأزق الذي ينتظره في حال فقدانه كرسي رئاسة الوزراء؟
في تقدير أولي، ثمة معطيات تحتّم على المراقبين أن لا يبالغوا كثيراً في تشاؤمهم، من خلال سحب ما مضى، على ما سيأتي. ذلك أن الدفع الأميركي نحو تسوية - وإن كانت واشنطن إلى الآن تنحاز بشكل كبير إلى المصلحة الإسرائيلية على حساب المصالح الفلسطينية -، فضلاً عن الموقف الرافض من الجانب الفلسطيني، قد يدفعان، في ما يبدو مرجّحاً نسبياً، إلى تغيير البنود على نحو يمكّن الصفقة من التبلور، خاصة في ظل التصعيد الإقليمي والخشية من تناميه، وهو ما يُتوقّع أن يركّز عليه بلينكن اليوم في لقاءاته مع مسؤولي العدو. بتعبير آخر، يفترض أن يبلغ المسؤول الأميركي القيادة الإسرائيلية أن الاتفاق على صفقة تبادل أسرى، بما يشمل وقفاً لإطلاق النار وإنهاء الحرب، يمثّل الوصفة الوحيدة التي تكفل منع انفلاش الحرب في الإقليم، والذي يشكّل الأمر الأكثر إقلاقاً لواشنطن، كما لتل أبيب، وواحداً من المعطيات التي يتراكم عليها عدد كبير من العوامل الضاغطة على القرار الإسرائيلي. ومع هذا، فإن أيّ حسم في فرضيات من ذلك النوع، غير ممكن.