يمكن لنا بعد متابعة تحوّلات الحرب عن قرب، وبعد عديد التطورات التي ألقت بظلالها على كامل المشهد في المنطقة أن نشير إلى 5 معيقات منعت وصول الحرب الإسرائيلية إلى خواتيمها حتى الآن، وهي جزء من مروحة أوسع من المعيقات، غير أنها تأتي في الصدارة.
بعد أحد عشر شهراً من العدوان الصهيوني المستمر والمتواصل على قطاع غزة، وما يتعلّق به من مجازر ومذابح تُرتكب صباح مساء بحق المدنيّين العزل من دون أي وازع من ضمير أو أخلاق، ومن دون أن يحرّك هذا العالم الظالم والمتواطئ ساكناً لوقف مجزرة القرن، تبدو فرص توقف هذه الحرب المجنونة في أدنى مستوياتها، ولا تظهر في الأفق سواء القريب أو البعيد أي بوادر تشير إلى قرب انتهاء هذا المسلسل الدموي وغير المسبوق في التاريخ الحديث.
إذ إن كل المؤشرات والمعطيات الميدانية والسياسية تشير بوضوح إلى أن موعد انتهاء هذا العدوان لم يحِن بعد، وأن إمكانية توسّعه إلى ساحات أخرى كما يجري خلال الأيام الأخيرة في مدن شمال الضفة المحتلة، أو كما يتوقّع الكثير من المحللين في ما يتعلّق بالجبهة الشمالية مع لبنان، أقرب بكثير من إمكانية توقّفه عند هذه المرحلة التي تبدو حاسمة ويمكن أن تحمل تطورات دراماتيكية غير متوقّعة.
يمكن النظر إلى الحرب العدوانية الشرسة التي يشنّها العدو الصهيوني على قطاع غزة، بالإضافة إلى ما يحدث حالياً في مدن الضفة المحتلة ومدينة القدس، أو ما يرتبط بهما من جبهات الدعم الإسناد في الإقليم، بأنها حرب مختلفة تماماً عن كل سابقاتها، سواء تلك التي كانت في مواجهة فصائل المقاومة الفلسطينية خلال الخمسة عشر عاماً الأخيرة، وتحديداً منذ عدوان 2008-2009، أو تلك التي كانت في مواجهة فصائل المقاومة اللبنانية وخصوصاً حزب الله، أو حتى تلك التي واجه فيها العدو الإسرائيلي الجيوش العربية في حروب متعددة.
ووجه الاختلاف هنا يتعلّق بكثير من التفاصيل، مثل الفترة الزمنية التي استغرقتها هذه الحرب، إلى جانب التحالف الدولي والإقليمي بزعامة الولايات المتحدة الأميركية، والذي يدعمها بكل ما أوتيَ من قوة، إلى جانب الموقف العربي والإسلامي والذي يبدو في أضعف حالاته، بالإضافة إلى الخسائر البشرية والمادية التي نتجت عنه، والتي فاقت من حيث العدد والنوع كل الخسائر التي حدثت في جميع المواجهات والحروب السابقة.
كان من الممكن لهذه الحرب القاسية أن تتوقف بعد شهر من انطلاقها لو توافرت بعض الشروط، وربما حسب ما كتب الكثير من المحلّلين والمختصّين والذين بدوا في تلك الفترة متشائمين من أمثالي بعد شهرين أو ثلاثة في أسوأ الأحوال، لكن معيقات كثيرة وقفت في طريق تلك النهاية التي كان يأمل فيها كثيرون حول العالم، وفي المقدّمة منهم الشعب الفلسطيني المظلوم في قطاع غزة، والذي دفع ثمناً باهظاً من دماء شبابه وشيوخه وأطفاله ونسائه، إلى جانب تدمير كل بناه التحتية ومؤسساته الخدمية، إذ منعت تلك المعيقات التي رآها البعض في مرحلة ما أنها غير مؤثرة وهامشية عجلة القتل من التوقف عن الدوران، بل وساهمت في مد تلك العجلة بكل ما تحتاج إليه من وقود للاستمرار في العمل، ولارتكاب المزيد من الجرائم التي صنّفتها المحاكم الجنائية الدولية بأنها ترقى إلى جرائم الإبادة الجماعية.
يمكن لنا بعد هذه المدة الطويلة من متابعة التحوّلات عن قرب، وبعد عديد التطورات التي ألقت بظلالها على كامل المشهد في المنطقة والإقليم أن نشير إلى خمس معيقات أساسية منعت وصول الحرب الإسرائيلية إلى خواتيمها حتى الآن، وهي جزء من مروحة أوسع من المعيقات، غير أنها تأتي في الصدارة بفعل تأثيرها الكبير، والتداعيات الكارثية والمباشرة التي ترتّبت عليها.
أولى هذه المعيقات وأهمها من وجهة نظرنا هو الموقف الأميركي من الحرب على غزة، والذي يُنظر إليه بأنه شكّل عاملاً حاسماً ساعد بما لا يدع مجالاً للشك في استمرارها، بل وفي وصولها إلى هذا القدر الكبير من البشاعة والقسوة، وهذا الموقف حسب كل المعطيات والشواهد لا يُعدّ موقفاً مسانداً أو مؤيداً فحسب، ولا يمكن النظر إليه بأنه يوفر الغطاء السياسي والقانوني لاستمرار العدوان فقط، بل يرتقي حسب اعتراف الرئيس الأميركي نفسه، إلى جانب وزيري خارجيته ودفاعه إلى درجة المشاركة الكاملة والمباشرة في العدوان، سواء من خلال إرسال حاملات الطائرات والبوارج الأميركية منذ الأيام الأولى للحرب لمساعدة العدو على تخطّي حالة العجز والإرباك التي أصابته، أو من خلال تقديم كل ما يلزمه من سلاح فتّاك لقتل المدنيين الفلسطينيين، وصولاً إلى مشاركة قواته الخاصة في بعض العمليات على أرض القطاع، بالإضافة إلى تقديم معلومات استخبارية هامة وحسّاسة عن بعض خطط المقاومة الفلسطينية، وتزويد العدو بإحداثيات لمواقع وأماكن وجود بعض قادة المقاومة، أو أماكن مفترضة لاحتجاز الأسرى الصهاينة.
ثاني المعيقات هو موقف العالم العربي والإسلامي الرسمي والشعبي الذي يمكن وصفه بأنه موقف ضعيف ومتخاذل، ولا يرتقي إلى حجم الدماء التي تراق على أرض غزة، أو إلى حجم الخسائر الهائلة التي أصابت كل مناحي الحياة في القطاع المحاصر والمنكوب.
هذا الموقف الذي لا نستثني منه سوى بقية شرف هذه الأمة في لبنان والعراق وسوريا واليمن، إلى جانب الموقف الإيراني الذي يُشار إليه بالبنان، بدا من أول يوم في العدوان بأنه يمنح العدو الصهيوني الضوء الأخضر لحرب الإبادة التي ينفذها ضد أهالي القطاع الأبرياء، بل وربما ذهبت بعض تلك الدول إلى أبعد مما يتوقع البعض، إذ إن بعضها فتح الحدود لوصول الإمدادات العسكرية إلى "جيش" العدو من القواعد الأميركية الموجودة على أراضيه، فيما ذهبت أخرى إلى إغلاق حدودها مع غزة بحجة منع خطة التهجير الإسرائيلية، في حين قامت معظم تلك الدول بقمع التظاهرات الشعبية المؤيدة لغزة، وشنّت حملات اعتقال وتخويف بحق المئات من الذين كانوا يدعون إليها ويقودون فعالياتها.
ليس هذا فحسب، بل أن دولاً عربية وإسلامية امتنعت عن تقديم الدعم لمشاريع تم تقديمها في مجلس الأمن الدولي لإصدار قرار بوقف الحرب على القطاع، وإن أظهرت على العلن غير ذلك، لكن الحقيقة تقول إنها على الأقل لم تبادر أو تشجّع مثل تلك المشاريع، وحتى القضية التي تم رفعها ضد "إسرائيل " في المحكمة الدولية كانت من قِبل جنوب أفريقيا وليس من دولة عربية أو إسلامية.
أما ثالث المعيقات فكان الموقف الدولي المتساوق مع العدوان، والذي ظهر بأبشع صوره في الدعم الذي قدّمته دول أوروبية للكيان الصهيوني مع أن لا ناقة لها ولا جمل في الحرب الدائرة في غزة، حيث كانت المواقف البريطانية والفرنسية والألمانية واضحة للغاية لناحية دعم حرب الإبادة وتشجيعها، بل وصل الأمر أحياناً إلى الدعم العسكري المباشر على الصعيد الاستخباري على أقل تقدير.
صحيح أن شعوباً أوروبية ومن مختلف دول العالم الأخرى خرجت للتظاهر بمئات الألوف ضد استمرار الحرب، لكن هذا الأمر على الرغم من أهميته لم يساهم ولو بنسبة ضئيلة في وقف الحرب، أو في الحد من تداعياتها الكارثية على السكان في قطاع غزة.
رابع المعيقات يتعلّق بموقف العدو الصهيوني من إيقاف الحرب، لا سيّما في ظل ما يبديه بنيامين نتنياهو من تعنّت إزاء الوصول إلى أي صفقة تُنهي الحرب وتوقف العدوان، مدفوعاً حسب معظم وسائل الإعلام الإسرائيلية ،بالإضافة إلى معارضيه السياسيين أمثال لابيد وغانتس وآيزنكوت بمصالح شخصية وأخرى حزبية متعلُقة في الأساس بالمحافظة على ائتلافه المتطرف من الانهيار والتفكك، وهو ما سيؤدي بالضرورة إلى انتهاء حياته السياسية إلى الأبد، إلى جانب خضوعه للمحاكمة بتهم الفساد والرشوة المنظورة ضده في القضاء الإسرائيلي، والتي ستلقي به خلف قضبان السجون، كما حدث مع سلفه وصديقه المقرّب إيهود أولمرت.
أما بخصوص خامس المعيقات وآخرها فهو موقف قوى المقاومة "محور المقاومة" في الإقليم من الحرب على غزة، والتكتيك الذي اتّبعته تلك القوى سواء بشكل فردي أو جماعي للتعامل مع ما يجري من عدوان على سكّان القطاع، والذي اعتمد على فتح جبهات مساندة وإشغال ذات نسق منضبط ومنخفض في معظم الأحيان، مفضّلة عدم الذهاب باتجاه فتح حرب واسعة ،أو على أقل تقدير مواجهة مرتفعة ومستدامة النسق، بحيث سعت من خلال ذلك النوع من الفعل الميداني المشار إليه آنفاً إلى الضغط على العدو لوقف عدوانه بشكل كامل، أو منعه بالحد الأدنى من تسجيل انتصار حاسم على المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، لا سيّما أنه يملك كل المقوّمات العسكرية والبشرية التي تمكّنه من ذلك.
حتى الآن، وبعد هذه الشهور الطويلة من القتال، وعلى الرغم من تشتيت قوة "جيش" الاحتلال بين مجموعة من الجبهات، لا يبدو أن هذا التكتيك قد نجح في الوصول إلى مسعاه، إذ إن كل ما يجري من مشاغلة على الجبهة الشمالية، إضافة إلى الجبهتين العراقية واليمنية على أهميته، لم ينجح في دفع العدو إلى وقف الحرب، بل إنه ذهب باتجاه تنفيذ ضربات قاسية في عمق ضاحية بيروت الجنوبية، وفي قلب العاصمة الإيرانية طهران، بالإضافة إلى الغارات على اليمن وسوريا، واستهداف قوافل السلاح على الحدود العراقية-السورية.
بناء على ما تقدّم، وبعد هذا الاستعراض المختصر للمعيقات التي نرى أنها تقف في وجه وقف الحرب على غزة، والتي توسّعت لتصل إلى مدن شمال الضفة، وربما غداً أو بعد غد إلى مدنها الجنوبية، يمكننا الخروج باستنتاج واضح وجلي، يشير إلى أننا بحاجة إلى حدوث تغيير جذري يؤدي لاحقاً إلى تحوّلات تُسقط جملة المعيقات المشار إليها أعلاه، أو على أقل تقدير التقليل من تداعياتها وتأثيراتها في المشهد في القطاع المحاصر والمنكوب، من دون ذلك هناك خشية من أن تتحوّل الحرب إلى حرب استنزاف ضد الشعب الفلسطيني ومقاومته، وضد قوى المقاومة في الإقليم، خصوصاً في ظل الدعم المفتوح والمتواصل الذي تقدّمه أميركا وحلفها للعدو الصهيوني ،والذي مكّنه من مواجهة كل ما يحيط به من تحدّيات حتى الآن على الأقل.
على كل حال، وعلى الرغم من الأجواء التشاؤمية التي تحيط بإمكانية توقّف هذه الحرب الملعونة خلال وقت قريب، وفي ظل عدم ظهور أي بوادر عن قرب انتهاء هذا العدوان، بما يؤدي إلى وقف أصوات المدافع لصالح صفقة تُنهي معاناة الناس في غزة وعذاباتهم، لكن إمكانية توقف العدوان تبقى واردة، وربما في وقت أقصر بكثير من توقّعاتنا، وهذه النهاية لن تكون كما يعتقد البعض نتيجة اتفاق سياسي برعاية رأس الشر في العالم وحلفها المجرم، ولن تكون أيضاً نتيجة صحوة عربية وإسلامية طال انتظارها، أو موقف دولي وعالمي اتّسم على الدوام بالعجز والنفاق، بل ربما تكون نتيجة أحداث وتحوّلات دراماتيكية لا يعلمها إلا الله، أحداث قد يستبعد البعض وقوعها في عالم تحكمه المصالح والحسابات المادية، لكنّ يقيننا الراسخ بالله يجعلنا نثق بأن التغيير قادم لا محالة، وأنه سيأتي اليوم الذي تُهزم فيه أحزاب الشر شر هزيمة، ويومئذ ٍيفرح المؤمنون بنصر الله.