إذا كانت "إسرائيل" لم تنجح في مشروعها الرامي إلى تهجير فلسطينيي القطاع إلى الخارج، فإنها في المقابل نجحت في إحداث ضرر ليس بالقليل في المؤشرات الديموغرافية على مرأى ومسمع النظام العربي الرسمي والعالم.
لماذا تصر "إسرائيل" على الاستمرار باستهداف الأطفال والنساء في حربها على قطاع غزة، رغم أن ذلك يسيء أكثر إلى صورتها حتى لدى الدول الداعمة لها؟ هل هي محاولة لتقليب البيئة الشعبية الفلسطينية على فصائل المقاومة وخياراتها، أم لكسر عزيمة فصائل المقاومة والضغط عليها تفاوضياً، أم مجرد انتقام نازي من المدنيين بعد الفشل في النيل من عناصر فصائل المقاومة، كما حدث في جميع المجازر السابقة من دير ياسين إلى صبرا وشاتيلا فقانا وغيرها الكثير؟
قد تكون كل هذه الإجابات صحيحة ومحقّة، لكن بالعموم هي أهداف ثانوية، فالهدف الأساس يكمن في محاولة إحداث تغيير ديموغرافي عميق يؤثر في التركيبة السكانية للأراضي الفلسطينية المحتلة منذ العام 1967، وعلى المديين القريب والمتوسط، وإلا ما الغاية من عملية الإبادة الجماعية التي تجري اليوم في قطاع غزة؟
تستهدف عملية التغيير الديموغرافي القضاء على ثلاث فئات عمرية تعتبر الخزان الأخطر على مستقبل "إسرائيل" ألا وهي: فئة الشباب، الأطفال، والنساء، وتحديداً من هنَّ في سن الإنجاب؛ فالأولى تشكل اليوم العمود الفقري لمشروع المقاومة الوطنية وأساس الدولة الفلسطينية المستقلة، والثانية هي ضمانة استمرار مشروع المقاومة والدولة في المستقبل، والثالثة هي الحافظة للنسل الفلسطيني؛ صاحب الأرض والحق، وهذا ليس بكلام نظري، فالتصريحات العنصرية لبعض المسؤولين الصهاينة كشفت مراراً عن نيات كيانهم الغاصب، كما أن بعض المؤشرات الإحصائية المتعلقة بالحرب المستمرة على قطاع غزة تذهب نحو تأكيد هذا الاستنتاج.
الإضرار بالهرم السكاني
إذا ما عدنا إلى تركيبة الخسائر البشرية للعدوان "الإسرائيلي" المستمر على قطاع غزة، فإننا سنجد بحسب البيانات الإحصائية الفلسطينية أنَّ الشباب يشكلون ما نسبته نحو 24% من عدد شهداء القطاع، والذين وصل عددهم إلى تاريخ إعداد هذا المقال إلى نحو 40 ألف شهيد.
وكي لا يعتقد البعض أن ذلك يبدو طبيعياً في ضوء المعارك التي تخوضها فصائل المقاومة منذ أكثر من 300 يوم في مواجهة القوات الإسرائيلية المتوغلة في جميع محافظات ومدن القطاع، فإن البيانات المذكورة تشير إلى أن نسبة الشهداء الشباب من إجمالي عدد الشهداء الذكور تبلغ حالياً نحو 26%، ونسبة الشهيدات الشابات نحو 22% من إجمالي عدد الشهيدات. أما عدد الشهداء في الضفة الغربية، فقد وصل إلى 620 شهيداً، معظمهم من الشباب والأطفال، إذ بلغت نسبة الشهداء دون سن 30 سنة نحو 75%.
الاعتقال هو أسلوب آخر لـ"هدم" الهرم السكاني للسكان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، إذ إن النسبة العظمى من المعتقلين، والذين زاد عددهم منذ السابع من أكتوبر الماضي على أكثر من 15 ألف شخص، كانوا من فئة الشباب، وتالياً فمن تكتب له الحياة وينجو من عمليات القصف والقنص "الإسرائيلية" يتم اعتقاله والتنكيل به، وذلك بغية تفريغ الأراضي العربية المحتلة من قدراتها البشرية الشابة، إلى جانب ما فقده القطاع من جراء موجات الهجرة الخارجية التي تمت مع بدايات العدوان، علماً أن المعطيات الرسمية تشير إلى أنه "عشية عدوان الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة يوم السابع من أكتوبر من العام 2023، كان يقيم في دولة فلسطين نحو 5.6 مليون فلسطيني، منهم 1.2 مليون شاب وشابة أعمارهم ما بين 18-29 سنة، وهم يشكلون بذلك ما نسبته 22% من إجمالي عدد السكان في فلسطين نهاية عام 2023. وقد بلغت هذه النسبة في الضفة الغربية نحو 22% مقابل 21% في قطاع غزة".
وليس الأطفال الفلسطينيون بأفضل حال، إذ إنهم يشكلون وفق العقلية الصهيونية "قنابل ديموغرافية موقوتة" يمكن أن تنسف مستقبلاً المشروع الصهيوني كاملاً. ومن هنا أتت الدعوات الصهيونية العلانية لقتل أطفال غزة الرضع والخدج في المستشفيات وقصف المدارس واعتقال الصغار قبل الكبار في الضفة الغربية.
وكما تذكر البيانات الإحصائية الصادرة عن السلطة الوطنية الفلسطينية، فإن الأطفال يشكلون ما نسبته 41% من عدد الشهداء في قطاع غزة، ونحو 23% من عدد شهداء الضفة الغربية منذ بداية العدوان على القطاع. كما أن أطفال غزة الجرحى يشكلون ما نسبته 7% من إجمالي عدد الجرحى في القطاع، وترتفع هذه النسبة لتصل إلى نحو 70% مع إضافة النساء اللواتي يشكلن، ولا سيما في سن الإنجاب، الفئة العمرية الثالثة المستهدفة "إسرائيلياً" لإجهاض أي محاولة لاستعادة النمو السكاني الفلسطيني معدلاته الطبيعية.
ولهذا، فإن التقديرات الرسمية الفلسطينية تخلص إلى أن "معدل النمو المقدر في قطاع غزة لعام 2023 سينخفض من نحو 2.7% وفق تقديرات الجهاز لعام 2023 إلى نحو 1% فقط خلال عام 2024، وتحديداً بعد منتصف العام، إذ ستنخفض معدلات المواليد والإنجاب بصورة كبيرة جداً نتيجة توجه الأزواج إلى عدم الإنجاب، نظراً إلى الأوضاع السائدة، وخوفاً على صحة الأمهات والأطفال، ونتيجة انخفاض عدد حالات الزواج الجديدة خلال عدوان الاحتلال الإسرائيلي إلى مستويات متدنية للغاية".
ولا يتردد جهاز الإحصاء الفلسطيني في القول إنه "يتوقع أن يتأثر التركيب العمري والنوعي للسكان مباشرة نتيجة استهداف الجيش الإسرائيلي المتعمد لفئات محددة من السكان كالأطفال والشباب، ما يؤدي إلى تشوه في شكل الهرم السكاني، وخصوصاً في قاعدته، مع العلم أن هناك تأثيراً متوسط وبعيد المدى يتوقع أن يطال التركيب العمري للسكان يتمثل بانخفاض عدد المواليد للسنوات القادمة، والذين يمثلون القاعدة الأساسية للهرم السكاني نتيجة لاستهداف فئة الشباب، والتي تنجب أو يتوقع أن تساهم في إنجاب الأطفال خلال السنوات القادمة".
تهجير من نوع آخر
إذا كانت "إسرائيل" لم تنجح في مشروعها الرامي إلى تهجير فلسطينيي القطاع إلى الخارج كما أعلنت وعملت منذ الأيام الأولى للحرب، فإنها في المقابل نجحت في إحداث ضرر ليس بالقليل في المؤشرات الديموغرافية على مرأى ومسمع النظام العربي الرسمي والعالمي الذي وقف عاجزاً عن مواجهة عملية الإبادة الجماعية المرتكبة بحق المدنيين الأبرياء، والتي إن استمرت بهذا الإجرام والوحشية والصمت العالمي، فإن "إسرائيل" تكون قد حققت بعضاً من مبتغاها في إحداث خلل ديموغرافي يصعب تعويضه لسنوات طويلة