أظهرت عمليّتا اغتيال هنيّة وشكر عمق الإجماع والزهو الإسرائيليّ الّذي اختفت معه جميع الخلافات والتباينات المتعلّقة بصفقة تبادل أسرى واستمرار الحرب، وانخفضت في ظلّهما الأصوات المنتقدة الّتي كانت تتّهم نتنياهو بإحباط صفقة تبادل الأسرى وإطالة أمد الحرب لأغراضه السياسيّة الداخليّة.
اختيار يحيى السنوار رئيسًا للمكتب السياسيّ لحماس خلفًا للشهيد إسماعيل هنيّة والمباركة الواسعة الّتي حظي بها من فصائل العمل الوطنيّ والارتياح والدعم الّذي استقبل به من كافّة مواقع وقطاعات الشعب الفلسطينيّ، إنما يؤكّد أن هذا الشعب الّذي لم ينكسر خلال حرب المئة عام، الّتي تخوضها ضدّه الصهيونيّة ودولتها إسرائيل، مدعومة بدول الغرب الاستعماريّ، وصمد في وجه كلّ محاولات الإبادة رغم دمويّتها، لم ولن تكسره حرب الإبادة الأشدّ فظاعة في العهد الحديث، والّتي ترتكب بأحدث آلات القتل الجماعيّ وقطعها البرّيّة والجوّيّة والبحريّة، وتشارك تقنيّات الاتّصال الحديث مشاهدها كلّ بيت وإنسان في هذا العالم الصامت.
هذا الشعب الّذي صمد وما زال منذ أكثر من 300 يوم، رغم النار والدماء والجوع والدمار في جحيم غزّة، مفشلًا كافّة مخطّطات التهجير والتفتيت والاستسلام والقيادة البديلة، متمسّكًا بمقاومته الشجاعة الّتي حوّلت الأنقاض إلى خنادق ودماء الشهداء إلى وقود لضوء السراج الّذي ينبعث من آخر النفق، هو شعب لن يكسر إرادته اغتيال قائد آخر، رغم الخسارة الكبيرة الّتي يمثّلها فقدانه، وهو الّذي فقد عبر تاريخ الصراع العديد من القادة العظام والعشرات من الكوادر النوعيّة، ونجح في كلّ مرّة بتعويض الخسارة واستكمال المسيرة بعزيمة أمضى وأشد وبقيادة أكثر صلابة وتصميم.
واليوم عندما يُخْتَار السنوار خلفًا للشهيد إسماعيل هنيّة، فإن ذلك لا يعني فقط منح الثقة المطلقة لغزّة وقائد معركتها، الّتي تعتبر من المعارك الفاصلة في تاريخ الشعب الفلسطينيّ، بكلّ ما يعنيه ذلك من يقين بصمودها وقدرتها على إفشال أهداف العدوان ودحر الجيش الإسرائيليّ عن أرضها، بل هي أيضًا رسالة لنتنياهو بأنك إن قتلت المفاوض فعليك مفاوضة المقاتل، إذا أردت فعلًا تحرير أسراك وإخراج جنودك من المستنقع الّذي بدأوا يغطسون فيه وإنقاذهم من حرب استنزاف طويلة.
اختيار السنوار هو بمثابة "رمي القفّازة" في وجه نتنياهو وإعلان بأن حماس والمقاومة والشعب الفلسطينيّ لا يهابون تهديداته، ولا يرهبون اغتيالاته، وأنهم ماضون في حرمانه وجيشه من أيّ نصر يضمن تحقيق أهداف إسرائيل المعلنة للحرب بالقوّة العسكريّة، وفي مقدّمتها تحرير الأسرى والقضاء على حماس، وذلك رغم الخراب والدمار والقتل والموت الّذي أحدثه هذا الجيش، وما زال في القطاع، وإظهار أن أقصى ما يستطيع تحقيقه هذا الجيش المدجّج بأحدث صناعات الأسلحة الأميركيّة هو القتل والتدمير والإبادة الجماعيّة، ناهيك عن براعته في ممارسة دور عصابات القتل المنظّم أو غير المنظّم وتنفيذ عمليّات اغتيال قذرة ضدّ الشخصيّات والكوادر الفلسطينيّة والعربيّة في تحدّ سافر للقانون الدوليّ وانتهاك لسيادة الدول.
وقد أظهرت عمليّتا اغتيال هنيّة وشكر عمق الإجماع والزهو الإسرائيليّ الّذي اختفت معه جميع الخلافات والتباينات المتعلّقة بصفقة تبادل أسرى واستمرار الحرب، وانخفضت في ظلّهما الأصوات المنتقدة الّتي كانت تتّهم نتنياهو بإحباط صفقة تبادل الأسرى وإطالة أمد الحرب لأغراضه السياسيّة الداخليّة، وقد أظهر استطلاع للرأي العامّ الإسرائيليّ أن 69% يؤيّدون هذه الاغتيالات، حتّى لو أدّى ذلك إلى تأجيل صفقة تبادل الأسرى.
الصحفيّ اليساريّ غدعون ليفي وصف ساخرًا الاغتيالات بالنسبة للإسرائيليين بالرياضة الأولمبيّة، حيث حصدت إسرائيل بالتوازي بعض الميداليّات في أولمبياد باريس بعد أن "أسقطت بعض المتنافسين" أيضًا، مؤكّدًا أن دولة تغتال الرجل الّذي تتفاوض معه على وقف إطلاق النار وتحرير الأسرى تتجاوز كلّ حدود شرعيّتها، بينما تساءل المحلّل السياسيّ في صحيفة "هآرتس" تسفي برئيل، فيما إذا كان رؤساء الأجهزة الأمنيّة، (الجيش والموساد والشاباك) قد حذّروا من أن تؤدّي تلك العمليّات إلى إحباط الصفقة أم أنهم هرعوا إلى اغتنام الفرصة الاستخباريّة والعمليّاتيّة، وهل قدّروا أن هذا الإنجاز سيدخل إسرائيل والمنطقة في دوّامة، ويدخل سكّان إسرائيل في حالة خوف وتوتّر، ويبقى المخطوفون في الأنفاق لبضعة أشهر أخرى من المعاناة.
برئيل يقول إن هؤلاء هم من قالوا إن تصفية الحساب النهائيّ مع حماس يمكن أن يجري بعد إنهاء الحرب أيضًا، بعد أشهر أو سنوات، هل هم يكذبون، أيضًا؟ أما المحلّل العسكريّ أمير أورن، فقد وصف عمليّة الاغتيال (هنيّة) بالمخجلة داعيًا إلى الكشف ومحاسبة متّخذي قرار تنفيذها لما لها من تداعيات خطيرة على الأسرى الإسرائيليّين، وعلى الأمن القوميّ الإسرائيليّ.
وفي انتظار ردّ إيران وحزب اللّه تحشد أميركا أساطيلها وبوارجها في شرق المتوسّط، وتحاول استنفار دول المنطقة العربيّة لصدّ المقذوفات الإيرانيّة فوق سمواتها، كما فعلت سابقًا، ليتأكد أيضًا أن أيّ خلافات بين أطراف الحلف الاستراتيجيّ القائم في المنطقة بين أميركا وإسرائيل والأنظمة العربيّة التابعة، هي خلافات تكتيكيّة سرعان ما تتلاشى أمام التناقض الرئيسيّ، وهو ما يظهر الأنظمة العربيّة عارية تمامًا وهي تصطفّ بشكل واضح إلى جانب إسرائيل ضدّ إيران وضدّ حزب اللّه ضد غزّة.