في فيلم «تيتانيك» (من إخراج جيمس كاميرون، 1997)، وفي أحد المشاهد التي تجمع جاك داوسون (ليوناردو دي كابريو) بشلّة الأثرياء في قاعة فاخرة، قال كاليدون الثريّ إنّه يجتمع مع أمثاله من الأثرياء لمناقشة الاقتصاد والسياسة، وهي أمور لا يفهمها جاك، موجّهاً بذلك إهانة لجاك داوسون.تظهر السياسة هنا كامتياز معرفي وكحقّ خاصّ لا تهمُّ ممارسته والخوض فيه إلّا قلّة من الأفراد. وفي سياق أوسع تخصّ أمماً دون أمم أخرى؛ كما حرص على ذلك وعد بلفور الذي أعطى حقّ تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين مع «ضمان أن لا تُنتقص الحقوق المدنيّة والدّينية لغير اليهود». أي أنّه أعطى حقوقاً سياسيّة للمستوطنين اليهود، مٌقابل حرمان أهل البلد الأصليّين منها.
كان الحقّ في السّياسة ولا يزال أكثر الحقوق المهضومة والمسكوت عنها في تاريخنا الحديث.
عن طمس السياسة
في نقد مهدي عامل للأيديولوجيا الطائفية (مدخل إلى نقض الفكر الطائفي)، يكتب في مواضع عديدة عن محاولة البورجوازية اللبنانية - من خلال تتبّع كتابات أبرز منظّريها ميشال شيحا - أن تطمس واقع الصّراع الطبقي في لبنان وتنزع عنه الطّابع السياسي، سواء عبر إعطاء لبنان وشعبه جوهراً أبدياً غير تاريخي أو عبر التّأكيد على الانقسام الطّائفي العمودي فيه، حيث يكون الهدف دوماً رفع المسؤولية عن الدّولة وأجهزتها في إدارة الأزمات التي يعيشها النّاس و«تأمين الشروط الضّرورية لتجدّد البنية الاجتماعيّة، بحيث تتجدّد باستمرار سيطرة البورجوازية فيها» وتأمين تواصل حكم لبنان رغم الأزمة وطمس بوادر التغيير (قبل 1975).
تتعدّد أشكال الطّمس، ففي السياقات الاستبداديّة العربية يكون المنحى العام لتأطير السّخط الشعبي هو شخصنة الأزمات والحوادث لتحميلها لفرد أو مجموعة أفراد عوض الحديث عن أزمات بنيوية في قلب النظم الحاكمة. يذكّر التعامل المصري عقب حوادث القطارات والعبّارات بهذا، فعوض مساءلة التوجّه العام ككلّ من حيث قلّة الإنفاق على وسائل النّقل والصيانة ومعايير الاختيار وأوقات العمل وأشكال المُحاسبة، وبالتالي تحميل السلطة السياسية لمسؤولية خياراتها الاقتصادية والاجتماعيّة، يُحمّل السائق أو عامل التحويل والمراقبة مسؤولية الحادث ككلّ (فيلم ضد الحكومة شرّح حالة مماثلة).
عوض أن تكون السياسة مشروعاً حياتياً تفنى فيه أعمارنا ونراهن فيه على حيواتنا صار شغلاً بدوام جزئي أو نشاطاً لوقت الفراغ
يمكن أن نضرب أمثلة مشابهة كثيرة، لعلّ أبرزها حالات السّخط التالية لعجر الناس عن دفع تكلفة طبابتها ومدارسها أو التالية لعدم توفّر خدمة صحية قريبة بما يكفي لتنقذ حياة الناس، ففي أغلب التغطيات الإعلامية، مضافاً إليها ردّة فعل «المؤثرين» وصنّاع المحتوى الذين بدأُوا يأخذون مكاناً كبيراً في الحيّز «العام»، تتّجه أصابع اللوم إلى أصحاب المصحات أو أصحاب المدارس، وداخل حفلات الهستيريا يتمّ التغاضي عن مسؤولية الدّولة في ضعف الإنفاق لتعود الدّولة بذلك جهازاً فوق سياسي، خارج الصّراعات الاجتماعية وهي تديرها لا أكثر، لتصير الخصخصة والسياسات النيوليبرالية بذلك قدراً محتوماً لا فكاك منه. وفي هذه الرّواية العربية الرسمية، فإنّ الاقتصاد أيضاً مسألة تقنية بحتة مفصولة عن السّياسة، تتلحّف بالعلم الموضوعي والحيادية والصّرامة. وليس «أداة أيديولوجية كانت سلاحاً ضد التنمية في وطننا العربي، كما في العالم أجمع» كما كتب علي القادري.
وهذا ما يصبّ في جعل ضعف بنيتنا التحتية وتخلّفنا التقني والصّناعي والزّراعي ومسألة «فراغ القوة» مسؤولية هذه المجتمعات أو أقداراً ربّانية وليست خيارات سياسية عملت عليها نُخب حاكمة بالتعاون مع (بالوكالة عن) المؤسّسات المالية العالمية - التي تحرص نخبنا على تصويرها كمؤسّسات دوليّة محايدة وليست مؤسّسات للهيمنة والسيطرة - أثّرت سلباً لا فقط على أرقام الموازنات، ولكن أيضاً على حياة البشر.
يُكمل الحديث عن فلسطين كشف لوحة الطّمس والتغييب، فبغضّ النظر عمّن يصرّح بعدائه لحقّ أهلنا في المُقاومة فموقف بقيّة السّلطات الحاكمة الذي ينعكس في بياناته ولغته (على مدى سنوات قبل «الطوفان») المواربة والتي تتبنّى الأفعال المبنيّة للمجهول وفي أحسن الأحوال تفتح المجال للأعداء كي يخاطبونا بلغتنا ليساوي بين المُستعمِر والمستعمَر، يتعامل مع صراعنا هناك كأنها أزمة إنسانيّة بحتة نجمت عن كارثة طبيعية.
لغة متحفّظة خجولة خجلت حتى في أعمالها الفنّية (أوبريت «الحلم العربي») من تسمية الأشياء بمسمّياتها، تسعى فقط لرفع العتب، خالقة بذلك مناخاً أيديولوجياً يفصل بين فلسطين والسياسات الداخلية، ويجعل منها مسألة عويصة عن الفهم والحلّ، ما خلق تيارات داخليّة تُبرّر التطبيع والتواصل مع العدوّ (الذي لم يعد عدوّاً بل طرفاً في نزاع)، محوّلة بذلك واجب العمل لمقارعة الصهيونية إلى حالة من الاستذكار الشعبي لفلسطين في المهرجانات وملاعب الرياضة.
يصطدم هذا التمييع للمواقف والحقائق بمسلّمة بسيطة تحدّث عنها كارل شميت في كتابه «مفهوم السياسي» ونعرّفها نحن بفطرتنا قبل أن تمسخها اللّاسياسة العربية، وهي: «تمييز العدوّ والصّديق كمعيار للسياسي».
«الطوفان» وواجب السياسة
إثر اندلاع انتفاضات «الربيع العربي»، وفي تلك الفسحة القصيرة من الأمل التي تبعت سقوط مبارك وبن علي: كان هناك الكثير من التحركات والكرنفالات الشعبية، لكن لم تكن لدينا سياسة حقيقية، وهذا ما كان أكبر نقطة ضعف في كلّ تلك التحرّكات وحتى تلك التي تليها، فلا يكفي الصراخ في الشوارع والمناداة بسقوط النظام لتأسيس بديل سياسي حقيقي.
ضاعت السياسة وسط الكرنفالات الانتخابية والمؤتمرات وبهتت الجذرية التي بدأت بها الانتفاضات، ووسط تمييع السياسة والأحزاب بتحويلها أمراً تقنياً تنفيذياً بحتاً حيث يصبح تعريف السياسي بنفس درجة تعريف رجل الاقتصاد أو الصحافي أو الأكاديمي المختصّ إلى الحدّ الذي دفع الكثير من الانتهازيين ليصيروا «سياسيين نجوماً» وعمل المناخ السّوق المسيطر على كل شيء وقُدّم لنا المحلّل والخبير ــ المحايد - عوض المثقّف الحزبي وصاحب الرّأي والناشط والنقابي عوض السياسي الحقيقي ابن الحزب المتجذر في شعبه وصاحب مشروع الثورة والتحرير. وعوض أن تكون السياسة مشروعاً حياتياً تفنى فيه أعمارنا ونراهن فيه على حيواتنا، صار شغلاً بدوام جزئي أو نشاطاً لوقت الفراغ.
الآن، وتحت عين «الطوفان» ولإعطائه مداه الحقيقي والكامل، فقد وجب البناء والعمل على ضوء مجموعة من الحقائق الجليّة: أن الكيان الصهيوني عدوٌّ مطلق يتنافى وجوده مع تحقيق سعادتنا، وأن واقع التجزئة العربية حليفه ونصيره أكثر ممّا تفعل دفعات الأسلحة الأميركية، وأنّ واجبنا الأخلاقي لحماية أنفسنا وحماية أهل فلسطين، ولكي لا نفنى كعرب، هو المزاوجة بين العمل على قتاله وتكييف مجتمعاتنا واقتصاداتنا لذلك ولفكّ الارتباط مع الغرب.
*كاتب عربي من تونس