أثناء كتابة هذا النصّ، كان رئيس حكومة كيان العدوّ بنيامين نتنياهو يغادر «إسرائيل» في أشدّ لحظات وجودها تعقيداً وقلقاً، متّجهاً نحو أميركا التي انسحب رئيسها جو بايدن من السباق الرئاسي ونجا منافسه الرئيس السابق من محاولة اغتيال، وهي تنتظره بالانقسامات والاستقطابات والرؤى المتناقضة والمخاوف من لحظة اختبار عالمية هي الأقسى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.لطالما كانت العلاقة مع واشنطن في مركز التفكير الاستراتيجي الإسرائيلي. ويحيل باحثون الخشية الإسرائيلية من خسارة التحالف مع قوى كبرى بتروما الهولوكوست التي تهيمن على النفسية الوطنية وذهنية القادة ولا سيما مع وجود تهديد بالإزالة.
كشفت مرحلة ما بعد السابع من أكتوبر عن رؤى متناقضة بين بايدن ونتنياهو لِما يجب أن تنتهي إليه الحرب، أي حول كيف ينبغي هزيمة «حماس» وكيف ينبغي توظيف ذلك في التوازنات الإقليمية، وماهية الأثمان والمخاطر المقبولة في سبيل ذلك. تفكّك هذه المقالة جوانب في العلاقة المتوترة والمضطربة بين حكومة نتنياهو وإدارة بايدن حول الحرب على غزة وتخلص منها إلى منظار للمستقبل القريب.
المفارقة أنه حتى الآن يبدو نتنياهو عاجزاً عن هزيمة يحيى السنوار، ولكنه يتغلّب، وبشكل مهين، على بايدن بعدما تمكّن من المناورة بهامش واسع بوجه الأخير، وهو ما سبق أن قام به كل من محمد بن سلمان ورئيس الوزراء الهندي مودي خلال الأشهر التي سبقت «طوفان الأقصى». استفاد نتنياهو بوجه بايدن من: ميزاته الشخصية (قدرات وخبرات المناورة والتلاعب، المعرفة المعمقة بالواقع الأميركي)، وظروف إسرائيلية (أبرزها: كارثية 7 أكتوبر؛ التعبئة المجتمعية؛ التوازن السياسي المحلي؛ الانقسام العمودي؛ الضعف في التأثير السياسي للجيش الإسرائيلي السياسي؛ النجاحات العسكرية التكتيكية الإسرائيلية التي تجاوزت التقدير الأميركي بفعل مستوى التدمير والتحلّل من الضوابط السياسية والقانونية والإنسانية)، وظروف أميركية (أبرزها: هوى بايدن الصهيوني وارتباطه وبعض عناصر إدارته العاطفي والإيديولوجي بالكيان: حاجة واشنطن إلى الظهور كحليف موثوق وقلقها من ظهور إسرائيل في موقف هزيمة؛ قرب موعد الانتخابات الرئاسية؛ نفوذ اللوبي الصهيوني؛ مواقف الحزب الجمهوري؛ الخشية من الحرب الإقليمية). واستدلالاً على أهمية العوامل الشخصية، سبق أن وصف هنري كيسنجر علاقته مع غولدا مائير بأنها مثل علاقة خاصة بين ابن أخ له عمّة خيّرة إلى درجة الإقرار بأن احتمال الخلاف كان تحدّياً للتسلسل الهرمي الأسري. ويؤكد مارتن إنديك في كتابه «سيّد اللعبة» أن مائير عرفت كيف تتلاعب بإحساس كيسنجر الموروث بالذنب اليهودي، وهو بدوره لم يتردّد في الخضوع لذلك.
لا ينفي هذا التوصيف كون كيان العدوّ جزءاً عضوياً من المنظومة الأميركية، إلا أن بين نتنياهو (متزعّم معسكر اليمين المتطرّف المهجوس بإيران والمتوثّب للعنف والحسم) وإدارة بايدن (الليبرالية المهجوسة بالصين وروسيا، والحريصة على الردع وضبط الشرق الأوسط وتحويله بأدوات ما دون الحرب) فجوة تعكس تباعداً في تصوّرات القيادتين للأولويات والتهديدات واستراتيجيات الخروج.
يجد بايدن أن «الساعة الرملية» الإقليمية لا تزال تحت التأثير الأميركي نسبياً، حيث تراكم واشنطن ضغوطاً كبيرة على خصومها (رباعية: الردع والخنق والاختراق والانفتاح المحسوب)، فيما تواصل تحويل المنطقة ببطء وتعيق صعود المنافسين الدوليين فيها. بينما تحوّل الوقت في إدراك نتنياهو إلى عبء لناحية طوق النار المتنامي (التهديد الوجودي للكيان لم يعد مصدره جيوشاً عربية من دول الطوق، بل «جيوش إرهابية» ملاصقة وقدرات نارية دقيقة من خارج دول الطوق) والبرنامج النووي الإيراني وضمور القدرة والإرادة الأميركية للقتال في المنطقة مع نزعة انعزالية متسارعة، والتصاعد في أعمال المقاومة داخل فلسطين وظهور عوارض تفكّك متقدّمة في «دولة إسرائيل».
عزّزت هذه التباينات العودة إلى مفهوم «الاستقلالية الاستراتيجية» في الكتابات الأمنية الإسرائيلية بعد 7 أكتوبر والتحذير من «الارتهان الاستراتيجي»
نظر بايدن إلى الحرب في غزة وفق مفهوم «صراع القوى الكبرى»، فيما اختار نتنياهو مقاربتها وفق مفهوم «الحرب على الإرهاب». فقارب بايدن الحرب من خلال عدسات جيوسياسية واقعية وحذرة، فيما قدّمها نتنياهو بعدسات حضارية لاحتواء الصورة الأخلاقية الكارثية لها ولتعبئة الغرب (إسرائيل تدفع ثمن الدفاع المتقدّم عن الغرب الحرّ الديموقراطي المتحضّر بوجه الإرهاب الإسلامي الرجعي). وفيما وجد بايدن أنّ هزيمة «حماس» تتحقّق وفق مقاربة «مكافحة التمرّد الناعمة» (منجزات عسكرية تكتيكية ومعها عملية سياسية وجهود تحويلية للمجتمع الفلسطيني)، أصرّ نتنياهو على أنّ النصر على «حماس» يكون مطلقاً وفق مقاربة «تغيير النظام» في غزة، مقارناً بين «حماس» وكلٍّ من ألمانيا النازية واليابان التوسعية في الحرب العالمية الثانية.
راهن بايدن على أن يستخرج من هذه الحرب فرصة لإنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، بينما يقامر نتنياهو لاستغلال اللحظة لتصفية القضية الفلسطينية. يدرك بايدن أن إنهاء الصراع لا يتحقّق بدون شرط ضروري وهو دولة فلسطينية (شكل من الحكم الذاتي بقناع سيادي) تتيح شرعنة «دولة إسرائيل» اليهودية، بينما تزايدت قناعات اليمين الإسرائيلي بأن نهائية «دولة إسرائيل» تنجزها القوّة العارية باقتلاع كل مصدر أمل فلسطيني بالدولة. بالنسبة إلى بايدن، سيؤدّي مساره إلى تكامل واندماج حلفاء واشنطن في نظام ردع إقليمي بما يفرض على طهران التراجع والمساكنة ما يبعد الحرب معها، في المقابل يطمح نتنياهو إلى أن يصل مساره إلى بناء حلف إقليمي لا يهدّد التفوّق النوعي الإسرائيلي (ترفض تل أبيب حتى نقل واشنطن لبعض الأسلحة النوعية إلى دول عربية مطبّعة) ويتيح شنّ الحرب على إيران لإنهاء مشروعها النووي وتطلّعاتها الإقليمية.
وفيما كان بايدن يرمي من مقاربته للحرب إلى إعادة اليمين المتطرّف الإسرائيلي إلى قمقمه، كان نتنياهو يصوّب على إضعاف بايدن لمصلحة عودة اليمين الانعزالي المتصهين بزعامة ترامب. اجتهد بايدن للخروج بصورة المنقذ للحليف التاريخي في لحظة تحدٍّ وجودي، فيما كان نتنياهو حريصاً على تظهير أن «إسرائيل» تدافع عن نفسها بنفسها وأنها صاحبة الإنجاز. سبق أن أشارت دراسة لمؤسّسة «راند» إلى أنه في العقل الإسرائيلي، يُعدّ تدخّل قوّة كبرى لمنع هزيمة إسرائيل بعد انهيار خطير «نسفاً لموقع الدولة الأمني بعيد المدى وهزيمة استراتيجية أخطر من أية هزيمة يمكن أن يتسبّب بها العرب».
عزّزت هذه التباينات العودة إلى مفهوم «الاستقلالية الاستراتيجية» في الكتابات الأمنية الإسرائيلية بعد 7 أكتوبر والتحذير من «الارتهان الاستراتيجي» (تردّدت مقولة إسرائيلية أن الكيان ليس جمهورية موز ويصنع قراراته السيادية باستقلالية). منذ عقود، يكاد لا يخلو نصّ إسرائيلي حول الأمن القومي من فقرة خاصّة بالعلاقات مع الولايات المتحدة لكونها رافعة مركزية للأمن والردع الإسرائيليين (بما توفّره من مظلة ديبلوماسية وسياسية ودعم عسكري وتسليحي واقتصادي وتكنولوجي وتهديد بالتدخّل المباشر عند الضرورة) وأيضاً لما لها من عوارض جانبية خطيرة تتمثّل في فرض خطوط حمر جغرافية أو زمنية أو نوعية على الخيارات العسكرية الإسرائيلية تمنع تحقيق نصر حاسم وتفرض الدخول في مساومات سياسية وأمنية. يدفع القلق من مستقبل السياسة الإقليمية لواشنطن بالاتجاه اليميني في كيان العدو إلى السعي لتقليل الاعتماد على واشنطن عبر تصنيع محلّي للذخيرة وبناء مخزونات استراتيجية من مصادر متنوّعة والتعاون العسكري مع دول إقليمية وتفعيل دور اللوبيات الإسرائيلية في واشنطن.
لا تحتمل «أميركا الحزب الديموقراطي» مشاغبة كهذه حين يكون النظام الدولي عند مفترق طرق، كما الحال الآن. لذلك، في حال بقاء الديموقراطيين في البيت الأبيض، فقد يسعون إلى زيادة صمامات الأمان ومنافذ التأثير في القرارات الاستراتيجية الإسرائيلية عبر:
تعميق التواصل ودعم القوى الليبرالية داخل الكيان وإيجاد روافع تأثير إضافية في السياسة المحلية؛ ضمان النفوذ في الجيش الإسرائيلي، ولا سيما مع تسرّب أعداد متزايدة من المتديّنين؛ برامج دعم مكثّفة لتقوية المجتمع المدني الليبرالي؛ ضمان استمرار التفوّق النوعي الإسرائيلي، لكن مع زيادة آليّة التأثير على استخدام القوّة العسكرية؛ تكثيف التشاور والتنسيق لإنتاج مقاربة مشتركة تجاه التحدّي الإيراني لضمان عدم الارتجال والتفرّد الإسرائيلي في السنوات المقبلة، حيث من المرجّح أن تتبنى تل أبيب تجاه طهران استراتيجية ذات سقوف مرتفعة مع موارد متزايدة؛ توسيع استخدام العقوبات ضدّ مجموعات وشخصيات صهيونية كما يحصل الآن بخصوص الاستيطان والهجمات في الضفة الغربية.
ستُصنّف حرب غزة الحالية كأحد أكبر إخفاقات السياسة الخارجية الأميركية على الإطلاق، ولسنوات طويلة سيعاد استذكارها ودور بايدن فيها عند الكثير من محطّات الفشل الأميركية المقبلة. من الضروري تطوير الفهم للمتغيّرات الجديدة في العلاقات الأميركية الإسرائيلية وتتبّع تصوّرات قادة البلدين تجاه بعضهما البعض، وهي علاقات تصبح أكثر تعقيداً ولا سيما مع تزايد تأثير العوامل الداخلية في البلدين على العلاقات الثنائية. لا يمكن لحرب غزة أن تنتهي بانتصار أميركي – إسرائيلي، على الأقلّ سيخرج أحدهما بهزيمة كبيرة من دون أن يكون الآخر منتصراً بالضرورة.
* أستاذ جامعي