كتب: حسن لافي
ما يحدث من عملية تغوُّل استيطاني في أراضي أهلنا في النقب المحتل، بواسطة الصندوق القومي اليهودي، تحت غطاء ما يُسَمى مشروع تشجير النقب، ما هو في الحقيقة إلاّ فرض واقع استيطاني يهودي على ما يقارب 100 دونم من أراضي منطقة الأطرش وقريتي سعوة والصواوين، ذات المُلكية الفلسطينية الخاصة، الأمر الذي يؤسس حَسمَ مُلكية أراضي المشاع التي يعتاش عليها الفلسطينيون البدو لمصلحة تهويد النقب بالكامل.
إن السعي الاستيطاني الصهيوني الدائم في النقب، والهادف إلى عزل السكان الفلسطينيين البدو في أقل قدر ممكن من المساحة داخل معازل سكانية مسيطَر عليها، يفتح الباب واسعاً أمام قضية عنصرية النظام السياسي للاحتلال الإسرائيلي تجاه فلسطينيّي الداخل المحتل عام 1948، والأسباب الحقيقية لهذه العنصرية العنيفة تجاه مجموعة سكانية تمثّل، بحسب نصوص "القانون الإسرائيلي"، "مواطنين" في "إسرائيل" (الفلسطينيين في الداخل المحتل عام 1948). لكنْ، يبقى السؤال الأهم: هل يمكن لـ"إسرائيل" أن تتخلّص من سياساتها العنصرية تجاه فلسطينيّي الداخل المحتل عام 1948؟ أم أن العنصرية والعنف صفتان ملازمتان للكيان الإسرائيلي، لا يمكن التعايش الفلسطيني معهما؟
حاول الباحث والأستاذ الجامعي الإسرائيلي، البروفسور أورن يفتاحئيـل، في كتابه "الإثنوقراطية: سياسات الأرض والهوية في إسرائيل/فلسطين" وضع إطار تعريفي للنظام السياسي القائم في "إسرائيل"، من خلال توضيح دوره الوظيفي، بحيث اعتبر يفتاحئيل أن دور "النظام الإسرائيلي" هو العمل على إقامة حكم الإثنية، التي تمثّل، في هذه الحالة، السكانَ اليهود، كون الدولة تعمل بنيوياً على تفضيل جماعة من المواطنين (اليهود) على الآخرين، وتسعى لإدامة هذا التفضيل. وبالتالي، تصبح الدولة أداة توفِّر المؤسسات والآليّات والقوانين، التي تُضفي الشرعية على عنفها المُستخدَم من أجل تثبيت سيطرتها على الأرض والهوية، وإرغام الفلسطيني على الرضوخ لذلك.
نرى أن توصيف "إسرائيل" دولةً إثنوقراطية، على الرغم مما يحمله من الصدقية، إلاّ أن يفتاحئيل وكثيرين غيره من مفكّري "ما بعد الصهيونية" لم يصلوا بعدُ إلى حدّ التناقض الكامل مع الفكرة الصهيونية، وما زالوا يراهنون على إمكان تعايش الهوية الصهيونية مع هوية الفلسطينيين، أصحاب الأرض الأصليين. هذا الرهان الذي يتناقض بالمطلق مع الفكرة الصهيونية ومنطلقاتها التأسيسية.
تؤكد الحقيقة التاريخية والحقيقة الفكرية أن "إسرائيل"، ككيان، عبارة عن تجسيد واقعي ملموس للفكرة الصهيونية. وبالتالي، فإنّ النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي والعسكري في "إسرائيل" يستمدّ أصوله التأسيسية وشرعية وجوده من الفكرة الصهيونية. لذا، لا يمكن، في حال من الأحوال، تحليل "النظام الإسرائيلي" بعيداً عن إدراك الأفكار الصهيونية المؤسِّسة للعلاقة بالفلسطيني وتحليلها.
بداية، تنظر الصهيونية إلى الفلسطيني، كإنسان وكشعب وكحضارة، على أنه معرقل لعملية الخلاص الصهيونية ("نفي المنفى"). وبالتالي، أصبح الفلسطيني هو الحائل بين الذات اليهودية الصهيونية والموضوع، وهو أرض الميعاد (فلسطين). وبالتالي، فإن إتمام عملية عودة اليهود من شتى أصقاع العالم إلى فلسطين مرتبطٌ باستكمال تهجير الفلسطيني من فلسطين. ومن هنا، يصبح العنف الصهيوني تجاه كل ما له علاقة بالفلسطيني جزءاً عضوياً من الظاهرة الصهيونية.
يوضح المفكر عبد الوهاب المسيري أن أحد الأشكال الأساسية للعنف الصهيوني هو رفض الصهاينة قبولَ الواقع والتاريخ العربيَّين في فلسطين، باعتبار أن "الذات الصهيونية اليهودية هي مركز هذا الواقع ومرجعيته الوحيدة". لذلك، اعتبر المسيري أن الصهاينة يستبعدون من رؤيتهم وخريطتهم الإدراكية أيَّ مكوِّن غير صهيوني لواقع فلسطين وتاريخها. فالجانب القومي في المشروع الصهيوني يُلزمهم بعدم الاعتراف بوجود جماعة قومية فلسطينية. لذا، فإن الفلسطينيين في فلسطين تحوّلوا، في الوعي الصهيوني، إلى سكان فائضين عن الحاجة يجب التخلص منهم، وإلى جماعة يجب عدم النظر في حقوقها أبداً، أو الاعتراف بها. وهنا، يأتي دور "الدولة" الصهيونية "إسرائيل" التي يقع على عاتقها قوننة نفي الفلسطيني، من خلال تشريعات "الدولة" ومؤسساتها، لتمارس بصورة ممنهجة ودائمة العنف والتهجير ضد كل ما هو فلسطيني، كون تغييب تاريخ فلسطين وتاريخ سكانها الأصليين بات شرطاً في بناء الهوية اليهودية الصهيونية (يهودية الدولة).
وعلى الرغم من أن عدة تيارات صهيونية طرحت إمكان التعامل مع فلسطينيّي الداخل المحتل عام 1948، على نحو محترم ولائق، شريطة أن يتنازلوا عن حقوقهم القومية، فإن حتى هذا الطرح لم يستطع الاستمرار صهيونياً، وخصوصاً مع التغيُّرات السياسية والاجتماعية، التي أبرزت الصهيونية اليمينية الدينية قوةً مركزية داخل المجتمع الإسرائيلي، والتي تعتبر الفلسطيني عبارة عن ظرف طارئ في "إسرائيل" سرعان ما سيتم التخلص منه، حتى لو حاول البعض الفلسطيني الاستسلام والرضوخ لفكرة يهودية الدولة، كما فعل مسؤول القائمة الموحَّدة، منصور عباس، إلاّ أن ذلك لم يمنع حكومة "إسرائيل"، التي هو جزء من ائتلافها، تنفيذَ مخطط الاستيلاء على أراضي النقب، التي تُعَدّ النواة الانتخابية الصلبة للقائمة العربية الموحدة. ونتيجة ذلك، تتأكّد حقيقة "استحالة التعايش مع الصهيونية"؛ هذه الحقيقة التي تفرض على الكل الفلسطيني والكل العربي استيعابَ أمر مفاده أن التناقض مع الصهيونية ("إسرائيل")، هو تناقض جوهري، لا يمكن إزالته إلاّ بزوال "إسرائيل" نفسها.