د. فايز رشيد
مفهوم الدولة المدنية، أنها الدولة التي تحافظ، وتحمي كل أعضاء المجتمع بغض النظر عن انتماءاتهم القومية، أو الدينية، أو الفكرية، وأن تقوم على السلام والتسامح، وقبول الآخر، والمساواة في الحقوق والواجبات، بحيث تضمن حقوق جميع المواطنين فيها.
وألا يخضع أي فرد فيها لانتهاك حقوقه من قبل فرد أو طرف آخر. ومن مبادئ الدولة المدنية أيضاً: الثقة بعمليات التعاقد والتبادل المختلفة، كذلك مبدأ المواطنة الذي يعني أن الفرد لا يُعرف بمهنته، أو دينه، أو إقليمه، أو ماله، أو سلطته، وإنما يُعرف تعريفاً قانونياً اجتماعياً بأنه مواطن يتساوى مع جميع المواطنين. ومن أهم مبادئ الدولة المدنية أنها لا تتأسس بخلط الدين بالسياسة، كما أنها لا تعادي الدين، أو ترفضه. حيث إن ما ترفضه الدولة المدنية هو استخدام الدين لتحقيق أهداف سياسية، فذلك يتنافى مع مبدأ التعدد الذي تقوم عليه. وتقوم على مبدأ الديمقراطية التي تمنع من أن تؤخذ الدولة غصباً من خلال فرد، أو نخبة، أو مجموعة، أو نزعة أيديولوجية.
ويدّعي الغرب بأن «إسرائيل» هي الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط في صحراء من الدكتاتورية العربية. ولكن بعد مرور سبعة عقود على إنشاء هذه الدويلة المسخ هل تحولت، وهل هناك إمكانية لتحولها إلى دولة مدنية على المدى المنظور؟ نجيب بألف كلّا، للأسباب التالية: «إسرائيل» جيش له دولة، هكذا أُطلق عليها عند إنشائها، وهذه هي حقيقتها. فقد تم تجميع رجال المنظمات الإرهابية الصهيونية من: شتيرن والهاجاناة والأرغون وليحي وغيرها في «تساهال»- جيش الدفاع (الحرب) «الإسرائيلي». وزعماء تلك المنظمات وأحفادهم أصبحوا قادة «إسرائيل» السياسيين والعسكريين من بن جوريون، حتى نتنياهو حالياً.
إن هذه الدويلة العسكرية التكوين والبنية لا يمكنها أن تكون دولة مدنية، لأسباب بنيوية أهمها: أولاً، لم تنشأ بشكل طبيعي كالدول الأخرى، وإنما كمشروع كولونيالي إحلالي، استيطاني مرتبط عضوياً بالمشروع الاستعماري في المنطقة العربية، ما جعل من هذه الدويلة رأس جسر للاستعمار الذي هو بطبعه استعمار إرهابي شكلاً ومضموناً. ثانياً: في مشروع آباء الحركة الصهيونية من هيرتزل، وايزمن، جابوتنسكي، وغيرهم، إلى جنرالات اليوم، مثل بيني جانتس وموشيه يعلون وأفيف كوخافي، اعتمدوا وسائل أساسية في تحقيق هدفهم بإنشاء دولتهم، وهي: الإرهاب، المذابح، القتل، الترويع، الترهيب، والتهجير القسري للفلسطينيين، تحت شعار: «ما لا نتمكن من تحقيقه بالقوة نستطيع تحقيقه بمزيد من القوة»، وشعار آخر: «أرض أكثر وعرب أقل». ثالثاً: إن الجناح الديني في الحركة الصهيونية كان، ولا يزال، الأداة الرئيسية لتسويغ سياسة القتل والإرهاب، وصولاً للإبادة الجماعية للفلسطينيين. رابعاً: عدم اقتصار الحركة الحاخامية الدينية «الإسرائيلية» في وجودها وتأثيرها في الهرم السياسي «الإسرائيلي» على شكلٍ واحد، وإنما قامت بإنشاء أحزاب سياسية امتدت طولًا وعرضاً في الشارع «الإسرائيلي». خامساً: المحافظة على استمرار نشاط المنظمة الصهيونية العالمية والمؤتمر اليهودي العالمي، إضافة إلى تشكيل اللوبيات الصهيونية في دول العالم للسيطرة على عصبي المال والإعلام في الدول والتأثير في قراراتها السياسية المؤيدة ل»إسرائيل». سادساً: الاستمرار في التنسيق مع الحركة الاستعمارية الإمبريالية العالمية، وبخاصة الأمريكية، كرديف مهم للحركة الصهيونية.
سابعا، العمل بمبادئ عدة، تعتبرها مهمة للأمن «الإسرائيلي»: بدء الهجوم دوماً، ونقل المعركة إلى أرض العدو، وعدم السماح للعرب بامتلاك أسلحة تهدد، أو قد تهدد «إسرائيل»، مستقبلاً. ثامناً: إيلاء الحرب النفسية اهتماماً كبيراً في الدفاع عن بقاء الدولة، وفي حالتنا هذه هي موجهة ضد العرب بهدف إيصالهم إلى حالة من اليأس، وعدم جدوى مقاتلة «إسرائيل»، واستحالة الانتصار عليها، وتهيئتهم بالمعنى النفسي للخسارة الحتمية في الحروب معها، واختراق الجبهات العربية بكل الأشكال، والسبل، ونشر كل العوامل والشروط للإحباط بمختلف الأساليب، والعمل على تجهيل العالم العربي ب»إسرائيل»، وإلهاء الجماهير العربية بقضايا يومية تافهة.
ثم إن على «إسرائيل» أن تتحدث دوماً عن السلام كمطلب أساسي لها، وفي مفاوضاتها مع العرب عليها أن تطيلها معهم سنوات، من دون الاستجابة لأي من مطالبهم، بل بفرض شروط جديدة عليهم، على قاعدة أن لا حلّ مع الفلسطينيين والعرب إلا وفقاً للرؤية «الإسرائيلية». ولا وجود لقاعدة « الأرض مقابل السلام»، وأن على العرب العمل بقاعدة «السلام مقابل السلام».
ثم الانتقال إلى مرحلة إقناع العربي بوجود عدو آخر، والتركيز على الصراعات المذهبية، والطائفية، والإثنية، لتفتيت الدولة العربية الواحدة، وبذلك ينتفي الصراع الأساسي في المنطقة، وهو الصراع العربي - الصهيوني. هذه هي حقيقة «إسرائيل».. إنها دولة محتلة، وهذه العوامل تنفي عنها صفة «الدولة المدنية»، وهي مرحلة لن تصل إليها مطلقاً.