يتحفّظ جيش الاحتلال الإسرائيليّ على كلّ ما هو متّصل بسياسة أوامر إطلاق النار على الفلسطينيّين، وذلك منذ الانتفاضة الأولى في أواخر ثمانينات القرن الماضي...
لا إحصاءات رسميّة دقيقة عن عدد شهداء وجرحى القطاع ومفقوديه منذ بدء الحرب الإبادة الدائرة على غزّة وأهلها، خصوصًا بعد انهيار القطاع الصحّيّ والنظام الإحصائي المدنيّ فيها، غير أنّ عدد الشهداء والمفقودين – منهم من صار في عداد الشهداء – أكثر بالتأكيد ممّا تظنّه تقارير الهيئات الحقوقيّة ووسائل الإعلام.
يؤدّي سلاح جوّ جيش الاحتلال وكذلك زوارقه البحريّة ومدافع دبّاباته على الأرض إلى قتل أكثر عدد ممكن من الغزيّين قتلًا جماعيًّا محمولًا بغريزة دمويّة – همجيّة ما انفكّت حتّى اللحظة عن إراقة دم سكّان القطاع منذ الثامن من تشرين أوّل/ أكتوبر الماضي. ومع ذلك، لا تقل فوّهات بنادق ورشّاشات رصاص جنود جيش الاحتلال وحشية عن طائراته وفوّهات مدافعه في حصد أرواح الغزيّين منذ الاجتياح البرّيّ للقطاع.
إصبع خفيفة على الزناد
يتحفّظ جيش الاحتلال الإسرائيليّ على كلّ ما هو متّصل بسياسة أوامر إطلاق النار على الفلسطينيّين، وذلك منذ الانتفاضة الأولى في أواخر ثمانينات القرن الماضي. قدّمت هيئات حقوقيّة إسرائيليّة مختلفة التماسًا قضائيًّا لمحكمة العدل العليا غير مرّة على مدار العقود الثلاثة الماضية، من أجل مساءلة الجيش للكشف عن مسوغات أوامر إطلاق النار الّتي يأتمر بها مجنّدو جيش الاحتلال من ضبّاطهم في الضفّة والقطاع. كان آخرها التماس قدم للمحكمة في سنة 2018 على إثر إطلاق جيش الاحتلال النار على متظاهرين مدنيّين غزيّين عند الجدار الإلكتروني الفاصل بين القطاع ومستوطنات الغلاف، غير أنّ جيش الاحتلال ظلّ يصرّ على رفضه الكشف عن الطبيعة الإجرائيّة لتعليمات وأوامر فتح النار على الفلسطينيّين.
عمومًا، يمنح جيش الاحتلال جنوده حصانة فعليّة تاريخيّة، تطوّرت هذه الحصانة بالتدريج منذ احتلال الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة في ستّينيّات القرن الماضي. ومنذ انتفاضة الأقصى (الثانية) توقّف جيش الاحتلال الإسرائيليّ عن التحقيق بشكل فوريّ في كلّ الحالات الّتي يقتل فيها فلسطينيّون برصاص الجيش. وإذا ما تقرّر إجراء تحقيق في حالات معينة، فإنّ النيابة العسكريّة لجيش الاحتلال هي من تتولّى مهمّة التحقيق بإطلاق النار، وقد يستغرق التحقيق إذا ما تمّ وقتًا طويلًا بما يميت التحقيق والحالة الّتي يجري التحقيق فيها معًا.
موت بلا صوت
في تقرير عن دور كتيبة عسكريّة تابعة لجيش الاحتلال مختصّة في تتبّع فوّهات الأنفاق وهدمها في رفح "مدينة الأنفاق" كما يطلق عليها جيش الاحتلال في ظلّ الحرب، نشر على موقع "حدشوت JDN" العبريّ، تضمّن التقرير صورة ملتقطة من قطاع غزّة مكتوب تحتها بالعبريّة "حفيم ميبشع برتسوعات عزا/ أبرياء في قطاع غزّة". لم تكن الصورة لأطفال أو نساء غزيّين بالطبع، إنّما لثلاثة كلاب ضالّة أو جعلتها الحرب تضلّ أصحابها. فـ "لا أبرياء سوى الكلاب" بمنظور ناظور بندقيّة جنديّ جيش الاحتلال في غزّة.
كما في تقرير آخر، أعدّه مؤخّرًا موقع "سيحاه ميكوميت" العبريّ، تناول فيه ستّ شهادات لستّة جنود من جيش الاحتلال "خدموا" في حرب الإبادة على القطاع خلال الأشهر الماضية، تحدّثوا فيها عن سياسة فتح النار المتّبعة من بنادقهم على الغزيّين. حيث أجمعت شهادات الجنود الستّ على فعل إطلاق النار بلا توجيهات ولا ضوابط ما يجعل الضغط على الزناد عبثيًّا في غزّة. غير أنّ هذا العبث بأرواح الغزيّين لا يعني على الإطلاق إطلاقا عشوائيًّا للنار، أو لنقل بأنّها عشوائيّة ممنهجة فكلّ "غزّة مطلوبة" بتعبير أحد الناجين من مجزرة مواصي خانيونس يوم السبت الماضي.
يوجد تعليمات، لكن لا يوجد توجيهات إلى أين يجب إطلاق النار على الأرض في غزّة يقول أحد الجنود، إنّما التعليمات هي فقط إلى أين يجب عدم إطلاق النار، وهذه قليلة، فقط في الموقع والوقت الّذي تدخل إليه وفيه قوافل المساعدات الإنسانيّة، يحاول عندها مجنّدو جيش الاحتلال عادة لجم أصابع سبّابتهم على زناد بنادقهم عن الغزيّين في ذلك الوقت والموقع. وفضلًا عن الدافع الانتقاميّ الّذي كان وما زال يبرّر ماكينة قتل الغزيّين، فإنّ دوافع أخرى "بررتها" الحرب منذ بدء العمليّة البرّيّة في القطاع، لا تقل وحشيّة عن دافع الانتقام، مثل إطلاق النار والقتل بغرض كسر الملل، "أشعر بالضجر إذن أطلق النار لكسره" يقول أحد الجنود في شهادته.
بدافع مجرّد الشعور بالخوف، والخوف يستوطن صدور مجنّدي جيش الاحتلال في القطاع طبعًا رغم وحشيّتهم، يفتحون النار على المارّين من الغزيّين بمن فيهم الأطفال والنساء، وفتح النار على الرجال هذا لم يعد يحتاج إلى أيّ تردّد "أطلق النار ثمّ تحقّق" هكذا هي التعليمات الّتي صارت مفهومة ضمنًا، والتحقّق بعد إطلاق النار هو فقط بغرض معرفة "إذا ما كانت الرصاصة قد أردت غزيًّا أم كلبًا" بحسب شهادة أحد الجنود، لأنّ الكلاب مصنفة على أنّها "حفيم مبيشع/أبرياء" وليس دائمًا.
كلّ إطلاق للنار هو "تكين" وفق شيفرة جيش الاحتلال في القطاع، أي إطلاق النار دائمًا "سليم ومبرّر ". وماذا عن الأطفال؟ إنّ "طفل اليوم هو مخرّب الغد" هكذا هي التعليمات. يبرّر "احتكاك" الغزيّين بمجنّدي جيش الاحتلال فتح هؤلاء الأخيرين النار عليهم، يحتلّ جيش الاحتلال القطاع بينما سكّانه عليهم ألّا يحتكّوا بالجيش، عليهم أن يختفوا من أرضهم وأحيائهم وبيوتهم وألّا يقابلوا بفوّهات البنادق، فلم هم ليسوا في رفح؟ يسأل كلّ جنديّ مطلق للنار نفسه لا ضحيّته، فكلّ من هو ليس في رفح هدف لفوّهات بنادق جيش الاحتلال، هذه تعليمات، ولكن ماذا عن رفح، هل هي سالمة فعلًا؟!
وحدها البنادق من تقتل بهدوء، دون أن تضطرّ لإزعاج هذا العالم في سبات نفاقه، فالبندقيّة مهما علا صوتها إلّا أنّها تظلّ خرساء، كانت هذه المقولة في السابق استعارة سياسيّة متّصلة بحركات التحرّر الوطنيّ، وضرورة تدعيم كفاحها المسلّح ضدّ الاستعمار بخطاب سياسيّ تحرّريّ. غير أنّ صمت بنادق المستعمرين في غزّة اليوم، هو صمت لجعل الموت بلا صوت.
لم يقف الأمر عند حدّ التستّر على إجراءات أوامر إطلاق النار؛ ففي الانتفاضة الثانية "انتفاضة الأقصى" ومنذ عام 2002 تحديدًا اتّخذ جيش الاحتلال في الضفّة والقطاع خطوة أخرى تقضي بأن يوجّه ضبّاط الجيش أوامر إطلاق النار لجنودهم في الميدان شفويًّا دون إصدارها كأوامر موثّقة كتابيًّا، أي أنّ المجنّد يتلقّى أمر فتح النار من فم ضابطه مباشرة، ويستبدل الضابط الموجّه للأوامر تعبير "فتح أو إطلاق النار" بتعابير بديلة مثل "أعطه" أو "حيده"، وذلك في محاولة أراد منها جيش الاحتلال رفع أيّ مسؤوليّة محتملة عن ضبّاطه عند توجيههم أمر فتح النار لمجنّديهم في الميدان.
كانت منظّمة "بتسليم" قد نشرت في حينه في آذار/مارس 2002 تقريرًا على موقعها بالعبريّة تحت عنوان "الأصبع على الزناد: إطلاق النار غير المبرّر وتعليمات إطلاق النار خلال انتفاضة الأقصى"، حيث أشار التقرير إلى أنّ تعليمات إطلاق النار على الفلسطينيّين في الضفّة والقطاع حتّى اندلاع الانتفاضة كانت تستند إلى قانون العقوبات الإسرائيليّ الّذي يبيح إطلاق الرصاص في حالتين فقط، الأولى: عندما يحيط بالجنديّ "خطر فوريّ داهم". والثانية: أثناء تنفيذ "إجراءات القبض على مشبوه لا ينصاع للأوامر". ومع اندلاع انتفاضة الّتي تحوّلت إلى انتفاضة مسلّحة، اتّسع مجال السماح لجنود جيش الاحتلال بفتح النار ليشمل وضعيّة ما عرف في حينه بـ "خطر يتهدّد الحياة" وقد أطلقت الصحف على تلك التعليمات تسمية "بنفسجيّ أزرق"، حيث ظلّت سرّيّة في حينه داخل دوائر وحدات الجيش وأجهزة الأمن الّتي سعت إلى إجهاض الانتفاضة بكلّ الوسائل في الأراضي المحتلّة. غير أنّ الوقائع على الأرض، والنتائج الّتي خلصت إليها "بتسليم" في تقريرها في حينه أثبتت بأنّ أوامر وممارسة إطلاق النار كانت أبعد وأوسع ممّا أتاحه نطاق التعليمات الّتي ادّعاها الجيش، إذ استشهد وجرح مئات الفلسطينيّين في الضفّة والقطاع جرّاء إطلاق رصاص حيّ عليهم لمجرّد اشتباه قوّات جيش الاحتلال بهم.