طوت الحرب الإسرائيلية الدائرة على قطاع غزة 280 يوماً؛ ولا يبدو في الأفق القريب بأن هناك نية لتوقيف التوحش الإسرائيلي. عديدة هي التبعات والتداعيات التي أفضت إليها تلك الحرب المستمرة، وكثيفة هي المشاهد العالقة بالذاكرة؛ وأتوقف عند تلك المرأة التي تداولت مواقع التواصل الاجتماعي صراخها وهي تقول: " خذلونا العرب يا رسول الله". ويبدو أن خذلان العرب لم يقتصر على تلك المرأة فقط.
عندما كانت الحرب في شهرها الخامس، وتحديداً في 9 شباط/ فبراير الماضي، كتبت مقالاً هنا بعنوان "الحرب على غزة... هل تخسر إسرائيل التطبيع مع المغرب؟"، وذكرت فيه؛ " لا يمكن القول بأن "إسرائيل" قد خسرت التطبيع مع المغرب أو أن التطبيع في طريقه إلى الإلغاء والانتهاء أو التوقف، ولكن هناك عملية تراجع وجمود ملحوظ أفضت إليها معركة طوفان الأٌقصى، كذلك لا يمكن الجزم بأن التطبيع قد يتعافى قريباً ويعود إلى الوتيرة ذاتها في بعديه الأمني والعسكري، ولا سيما في ظل استمرار الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة".
خاب تقديري، ولم يصدق استشرافي، وذهب المغرب بعيداً في مرحلة ما بعد التطبيع، لم تتوقف حدود الخيبة عند معادلة أن الحرب لم تؤثر في مسارات التطبيع بين المغرب و"إسرائيل" فقط، ولكن تجاوزتها إلى حدود عابرة للتقديرات، ذلك أن ما حدث يمكن وصفه بمكافأة قيمتها مليار دولار قدمتها الرباط لـ"تل أبيب" لتستنهض وتتعافى من تبعات الحرب الاقتصادية والعسكرية.
قبل 3 أيام من وقوع مجزرة مركز إيواء مدرسة العودة للنازحين التي ارتقى فيها نحو 25 شهيداً، ويوم من مجزرة مواصي خان يونس التي ارتقى فيها 92 شهيداً، أفادت وسائل إعلام عبرية؛ منها صحيفة "كلكليست"، في 10 تموز/ يوليو 2024، بأن شركة صناعات الفضاء الإسرائيلية (IAI) ستزوّد المغرب بقمر صناعي تجسسي استخباري، "أوفيك 13" الذي سيحل محل قمرين صناعيين من إنتاج "إيرباص" و"تاليس"، في إطار صفقة تبلغ قيمتها نحو مليار دولار.
وأكدت الصحيفة أن رئيس شركة الصناعات الجوية ووزير حرب الاحتلال السابق عمير بيرتس، زار المغرب مؤخراً عبر إحدى الدول الأوروبية من أجل توقيع الصفقة السرية، والتي اكُتشف أمرها عندما أخطرت شركة الصناعات الجوية الإسرائيلية في 3 تموز/ يوليو الجاري، بورصة "تل أبيب" بأنها وقعت صفقة توريد معدات عسكرية بقيمة مليار دولار مع طرف غير مُعلن، يتضمن دفعات مالية تعتمد على الامتثال لشروط محددة على مدى فترة تقارب خمس سنوات، ولم تحدد إعلانات البورصة طبيعة العقد.
لماذا قرر المغرب في هذا التوقيت المُحمّل بالمتغيّرات؛ شراء قمر تجسس إسرائيلي بمليار دولار، من دون الالتفات ومراعاة حجم التوحش والتغوّل الإسرائيلي الحاصل في حق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة منذ 280 يوماً، ومن دون تقدير موقف حقيقي وموضوعي لحرب باتت قاب قوسين أو أدنى قد تشتعل في شمال فلسطين المحتلة على جبهة لبنان؟
قد يفهم المرء ويتفهم أن المغرب لم يكن ضمن مكوّنات محور المقاومة أو ساحاته، لكنه لا يفهم إصرار المغرب على الذهاب إلى صفقة بمليار دولار مع كيان الاحتلال، فهو لم يكن مضطراً لذلك، وإن كان، فبإمكانه تأجيل الصفقة.
مسار التعاون العسكري والأمني بين المغرب و"إسرائيل" ليس وليد تطبيع متخلق في رحم اتفاقيات أبراهام، فهو قبله، لكنه قفز مع التطبيع المفخخ، والصفقة بمليار دولار لم تكن أول القصيد ولا آخره، في درب الخذلان العربي للشعب الفلسطيني، فعلى وقع الدم المشتبك مع السيف، ذهب المغرب من قبل وتحديداً في 10 أيار/ مايو 2024، ليصبح مصنّعاً للطائرات الإسرائيلية العسكرية من دون طيار.
وفي تفاصيل ذلك، نقلت صحيفة "لوموند" الفرنسية؛ أن شركة "بلو بيرد ايرو سيستمز" التابعة لشركة صناعات الفضاء الإسرائيلية، ويديرها رونين نادر القائد السابق لسلاح الجو الإسرائيلي، شيّدت مصنعاً لإنتاج الطائرات من دون طيار في المغرب. ولم يتم إصدار أي تفاصيل عن المشروع، ولا عن تاريخ بدء تشغيله. وفي شباط/ فبراير 2023، أبرمت "إسرائيل" والمغرب صفقة بقيمة 500 مليون دولار لتزويد المملكة بنظام الدفاع الجوي والصاروخي "باراك".
وكشف تقرير معهد البحوث الدولية حول السلام في ستوكهولم؛ في تقريره لعام 2023، حول عمليات تحويل الأسلحة الدولية الرئيسية، أن "إسرائيل" تمتلك 11% من حصة السوق في توريد الأسلحة إلى المغرب.
إن السؤال لماذا قرر المغرب شراء قمر تجسس إسرائيلي بمليار دولار، تبقى إجابته معلقة على جملة معطيات يمكن إيجازها في الآتي:
- قمر التجسس الإسرائيلي "أوفيك 13" الذي ينوي المغرب شراءه، تنتجه شركة تتبع وزارة الحرب و"الجيش" الإسرائيلي، ويتم تشغيلها من قبل إدارة المخابرات العسكرية في "الجيش" الإسرائيلي، وتحديداً وحدة المخابرات 9900. ويمتلك القمر "أوفيك 13" قدرات كبيرة جداً في الرصد والتجسس والتصوير بدقة عالية الجودة، والسؤال على من يريد المغرب أن تتجسس؟ ولماذا يضع كنزاً من المعلومات الجوية والاستراتيجية تحت إدارة وتدريب وإشراف وصيانة دورية إسرائيلية؟
- الأصل في مقومات الأمن القومي العربي ومحدداته الرئيسية والتقليدية أن العدو الوحيد للدول العربية هو "إسرائيل"، فلماذا يعتمد المغرب في بناء قدراته العسكرية والاستخبارية على "إسرائيل"؟، مع كل ما يترتب على ذلك من تبعات وتداعيات سلبية في علاقات المغرب مع محيطه العربي والأفريقي، بل قد يفتح باب السباق نحو التسلح والإنفاق العسكري الفلكي بين دول شمال أفريقيا.
- عسكرياً وأمنياً واقتصادياً، ما حاجة المغرب إلى امتلاك قمر تجسس إسرائيلي من نوع "أوفيك13"، بمليار دولار، وهو يمتلك اثنين من الأقمار الصناعية، واشترى نسختين من القمر الصناعي الذي صممته شركة "إيرباص" وشركة "تاليس" بعد اتفاق سري أبرم في عهد الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند عام 2013.
وقد تم إطلاق القمر الصناعي الأول "محمد السادس/أ" إلى الفضاء في 8 تشرين الثاني/نوفمبر 2017 من منصة الإطلاق في كورو في غويانا الفرنسية، في السواحل الشمالية لأميركا الجنوبية، وكان يهدف إلى تعزيز القدرات الأمنية والاستخبارية للمغرب. ويستطيع رصد 800 كيلومتر بدقة عالية جداً، أما القمر الثاني "محمد السادس/ب"، فقد تم إرساله إلى الفضاء في عام 2018، وله قدرة على مراقبة مناطق جغرافية كبرى تشمل دول الساحل بأكملها؛ على مساحة بنحو 7 مليون و700 ألف كيلومتر مربع، وقد تصل إلى الحدود مع السودان".
- بينما يعدّ المغرب ثالث دولة أفريقية تطلق القمر الصناعي بعد كل من جنوب أفريقيا ومصر، فإن إسبانيا جارة المغرب لا تتوفر على قمر صناعي خاص بها، بل تتقاسم مع دول فرنسا وبلجيكا وإيطاليا واليونان القمر الصناعي الأوروبي "هيليوس" منذ عشرين سنة.
- المفارقة أن المغرب قرر دفع مليار دولار من لحمه الحي لموازنة "إسرائيل"، في الوقت الذي وضع موقع "إنسايدر مانكي"، المتخصص في التصنيفات والتحليلات المالية والاقتصادية، المغرب ضمن الدول الأكثر مديونية لصندوق النقد الدولي على المستوى العالمي. وجاء المغرب في المرتبة الـ 17 عالمياً ضمن قائمة 20 دولة أعدّها الموقع الأميركي المتخصص بناءً على بيانات الصندوق الدولي إلى غاية 24 آذار/ مارس 2024، إذ يبلغ إجمالي ديون المغرب المستحقة لهذه المؤسسة الدولية ما قيمته 1,34 مليار دولار أميركي.
لماذا قرر المغرب شراء قمر تجسس إسرائيلي بمليار دولار، على وقع الدم الفلسطيني الممتد من حي الشجاعية بغزة إلى حي المغاربة في القدس، لماذا قرر المضي في تيه التطبيع مع "إسرائيل"، ورفع الرصيد السياسي والاقتصادي لنتنياهو الذي خدعه مرتين عندما أظهر خريطة المغرب من دون الصحراء الغربية، وقد كان مبرر التطبيع وتمريره أنه مقابل اعتراف "إسرائيل" بسيادة المغرب على الصحراء الغربية، وهو ما لم يحدث. لماذا قرر المغرب مكافأة "إسرائيل"، وتجاهل صوت التظاهرات في شوارع الرباط الرافضة للتطبيع والداعمة لفلسطين.