تشكل المواجهة العسكرية على الجبهة الشمالية بين "إسرائيل" والمقاومة اللبنانية تحدياً استراتيجياً للمستويين السياسي والعسكري الإسرائيليين، منذ الثامن من أكتوبر، بعد إعلان المقاومة في لبنان إسناد جبهة المقاومة في غزة، وفشل جميع المحاولات الإسرائيلية لثني قيادة المقاومة اللبنانية عن الربط بين جبهتي غزة ولبنان، بالإصرار على موقفها إنهاء الحرب على غزة أولاً ثم البحث في الحلول المطروحة عبر الوسطاء والمبعوثين، كما فشلت سياسة التهديد والوعيد الإسرائيلية، الأمر الذي دفع أوساطاً إسرائيلية إلى طرح الخيار العسكري حتى لو أدى إلى خسائر إسرائيلية فادحة، ومن أبرز الداعين إلى شن حرب واسعة على لبنان زعيما تيار الصهيونية الدينية، واليمين الفاشي، بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير.
ولم يكتف الأخير بالدعوة إلى الحرب بل وهدّد بالانسحاب من الحكومة وإسقاطها في حال عقدت حكومته اتفاقاً مع المقاومة في لبنان وإنهاء الحرب على غزة، كما تؤيد غالبية الجمهور الإسرائيلي الخيار العسكري ضد لبنان، بيد أن اليمين الفاشي ينطلق في حساباته من اعتبارات أيديولوجية وحزبية، بصرف النظر عن المعايير المهنية، بينما يخشى قطاع واسع من الرأي العام الإسرائيلي تكرار سيناريو السابع من أكتوبر انطلاقاً من لبنان، كما أنه تعرض لما يشبه غسيل الدماغ من كثرة التهديدات التي يطلقها الساسة والجنرالات في "إسرائيل" ضد لبنان ومقاومته، ما جعلته أقل إدراكاً للآثار الكارثية للحرب التي تخفيها تصريحات قادتهم، بينما يستحضرونها في مختلف جلسات تقدير الموقف.
تعكس المواقف العسكرية والسياسية الرسمية داخل "إسرائيل" نبرة عالية اتجاه جاهزية "الجيش" الإسرائيلي لاندلاع حرب واسعة مع المقاومة اللبنانية ستشمل جميع القطاعات في لبنان، بيد أن حقيقة الموقف الإسرائيلي لا تعكسه تلك التصريحات التي تأتي بهدف شن حرب نفسية على قيادة المقاومة في لبنان وعلى المستويين الرسمي والشعبي اللبناني كي يشكلا ضغطاً على المقاومة للنأي بنفسها عن الحرب الإسرائيلية على غزة وتجنيب لبنان مخاطر الحرب، بيد أن تمسك المقاومة بموقفها وتحوّل الجبهة اللبنانية إلى معركة استنزاف ورفع مستوى المواجهة والقتال وإيقاع مزيد من الخسائر المادية والبشرية الإسرائيلية، إلى جانب تحويل شريط واسع من شمال فلسطين المحتلة إلى أشبه بمنطقة عازلة، وتهجير عشرات آلاف المستوطنين عن مستوطنات الشمال داخل الفنادق في وسط فلسطين المحتلة، وإعلان رفضهم العودة إلا بعد حل مشكلتهم جذرياً، بمعنى التخلص من تهديد المقاومة في لبنان، إلى جانب موقف اليمين الفاشي وتهديداته، بحل الائتلاف الحكومي، تضع خيار الحرب الواسعة على طاولة القيادة الإسرائيلية، لكنّ خيار الحرب الشاملة مع لبنان لن يكون خياراً سهلاً.
تواجه القيادة الإسرائيلية عدداً من التعقيدات والتحديات التي تترافق مع خيار الحرب على لبنان، أبرزها الخشية من القدرات العسكرية العالية التي تتمتع بها المقاومة اللبنانية المعلوم منها والمجهول، والتي ظهر منها جزء يسير منذ الثامن من أكتوبر، لا سيما الصواريخ الدقيقة، وقدرات الدفاع الجوي، والقدرات الاستخبارية العالية، وغيرها مما قد يشكل مفاجآت أعدّتها المقاومة، كما تخشى" إسرائيل" من القدرات التدميرية العالية للصواريخ اللبنانية، والتي ستطال مواقع حيوية إسرائيلية وستدمر عدداً منها، وسترفع الكلفة البشرية والاقتصادية، وستؤثر في مناحي الحياة الإسرائيلية كافة، والخشية الأخطر من عدم صمود الجبهة الداخلية الإسرائيلية أمام هجمات المقاومة، والمعوِّق الأهم أمام صانع القرار الإسرائيلي هو عدم قدرة الدفاعات الجوية على حماية مختلف المواقع الحيوية المدنية والتكتلات السكانية، ما سيضطرها إلى أن تكتفي بالدفاع عن المواقع الاستراتيجية العسكرية والاقتصادية.
التحدي الاستراتيجي الذي تخشاه القيادة الإسرائيلية هو اتساع نطاق الحرب، وانضمام تشكيلات المقاومة العسكرية العربية والإسلامية إلى الحرب، وربما تتسع لتشمل الجمهورية الإسلامية في إيران، وفي حال تطورت الحرب قد يتم فقدان السيطرة وتتحوّل إلى حرب إقليمية شاملة لن تقف فيها دول المنطقة وكياناتها وشعوبها متفرجة، الأمر الذي سيهدد وجود "إسرائيل" ومصيرها.
يدرك قادة "إسرائيل" أن الشرعية الدولية التي تمتعت بها في بداية الحرب على غزة تراجعت بشكل حاد، حتى إنها فقدت تلك الشرعية، ما سينعكس ليس فقط على صورة "إسرائيل" ومكانتها الدولية، بل سيؤثر أيضاً في توريدات السلاح إليها.
وحسب عدد من المصادر الإسرائيلية والعالمية والتصريحات الرسمية الإسرائيلية والأميركية، فقد ضخت واشنطن كميات كبيرة من السلاح إلى "إسرائيل" في بداية الحرب، ثم تباطأت مع بروز عدد من نقاط الخلاف التكتيكية بين إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن وبيبي نتنياهو، ثم علقت شحنات عسكرية ذات مواصفات محددة، وتحدثت أوساط أميركية عن صعوبة مشاركتها الفعلية في الدفاع عن حليفتها والتصدي ومواجهة الصواريخ والمسيرات اللبنانية على غرار التصدي للصواريخ والمسيرات الإيرانية مؤخراً.
أحد المعوقات التي تواجه قادة "الجيش"، حالة التعب والتآكل والإنهاك التي يعاني منها "الجيش" النظامي وجنود الاحتياط، الذين يحاربون أو يتدربون منذ نحو تسعة أشهر في غزة، والحالة النفسية القاسية التي يعاني منها الجنود بفعل الحرب والخسائر البشرية والمادية في الجنود والمعدات العسكرية، والتي كشفت الأوساط العسكرية الرسمية عن جزء منها، وأخفت أجزاء أخرى بهدف الحفاظ على الروح المعنوية لـ"الجيش" والجبهة الداخلية.
تقف القيادة الإسرائيلية أمام تلك المعوقات والتحديات وغيرها في حالة من التردد والخشية من اتخاذ قرارات مصيرية في مرحلة حساسة ودقيقة لا يمكن التنبؤ بنتائجها وانعكاساتها، ما سيدفعها إلى مزيد من التريث والبحث عن حلول أكثر واقعية، منها تخفيف حدة الحرب على غزة وإنهاء الحرب البرية والهجمات المكثفة والانتقال إلى ما تسمّيه المرحلة الثالثة من الحرب، على أمل أن تساعد في إيجاد حل دبلوماسي مع المقاومة اللبنانية، وفي الوقت نفسه، سيسعى نتنياهو للرهان على دعم أكبر من حليفه الأميركي بعد نهاية ولاية جو بايدن على أمل فوز دونالد ترامب بعد نحو أربعة أشهر، الأمر الذي سيبقي الجبهتين الفلسطينية واللبنانية في حالة مواجهة وقتال يتأرجح بين الصعود تارة والهبوط تارة أخرى حتى نهاية العام الحالي، ومعرفة ما ستؤول إليه نتائج الانتخابات الأميركية.