المتملص هو اللقب الذي أطلقته الصحافة الإسرائيلية على الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط عشية إطلاق سراحه يوم 18-10-2011 مقابل الإفراج عن 1027 من الأسرى الفلسطينيين من سجون الاحتلال في اتفاق مع حركة حماس ورعاية مصرية،
ومن ثم قامت "إسرائيل" وتملصت من الاتفاق وأعادت اعتقال 75 أسيراً محرراً في الصفقة وزجتهم بالسجون في ظل الحملة العسكرية الإسرائيلية الواسعة بحثاً عن ثلاثة مستوطنين مفقودين.
المتملص الذي عاد بعد خمس سنوات من الاحتجاز، وبعد آلاف القتلى المدنيين في قطاع غزة وحملة واسعة من الاعتقالات، وبعد حصار طويل وتشريع منظومة قوانين عجيبة وغريبة أطلق عليها اسمه (قوانين شاليط)، طبقتها حكومة "إسرائيل" على الأسرى بالسجون كجزء من العقاب الجماعي والضغط على الأسرى، وجعلت حياتهم وكرامتهم وإنسانيتهم رهينة بعودة المتملص شاليط.
المتملص نجا من الموت وهو على ظهر دبابة تقصف سكان غزة، ونجا من الموت بعد إلقاء قنابل الفسفور على السكان، ونجا بعد أن شنت "إسرائيل" حرب إبادة على أكثر بقعة في العالم مكتظة بالسكان والفقراء واللاجئين، وصار المتملص عنواناً أممياً للسلام والحرب في المنطقة، صوره توزع في كل بقاع العالم، وعائلته تجوب أصقاع الدنيا تبحث عن مؤيدين ومساندين لعودته والإفراج عنه.
المتملص صار أهم من نيلسون مانديلا ومن كريم يونس ومروان البرغوثي وأحمد سعدات ولينا جربوني، وأهم من أي مبادرة جريئة "للسلام العادل" بالمنطقة، وأهم من أي حوار أو مفاوضات أو أي لقاء يمنع استمرار المذبحة ونزيف الدماء، فهو رمز للجيش الذي لا يقهر، ورمز لطهارة السلاح في "إسرائيل" الذي يقتل الأبرياء وتلقي طائراته قنابل بوزن عشرة أطنان فوق رؤوس الناس، وهو رمز للبطل الذي كان ذاهباً لفتح أبواب غزة وإسكات صوت خانيوس ورفح وجباليا وصراخ البحر الهائج.
المتملص عاد من الاحتجاز، ولكن القوانين الناطقة باسمه ظلت طليقة وشرسة يدفع ثمنها الأسرى بالسجون، وكلما أضربوا عن الطعام أو احتجوا على الظروف القاسية التي يعيشونها أشهرت "إسرائيل" قوانين شاليط في وجوههم: لا زيارات لا كنتين، لا فضائيات، لا فورة، عقوبات بالعزل والغرامات والحرمان من الصحف ولقاء المحامين، وتفتيشات ومداهمات وقمع وغيرها.
المتملص الآن ينعم بهدوء على شاطئ تل أبيب بينما حكومته ألغت الاتفاق الذي أفرج عنه بموجبه، فقامت بعملية اعتقال المحررين مجدداً وتحاول إعادة فرض أحكامهم السابقة عليهم متملصة من أفعالها الأولى واللاحقة، تراوغ حول أي اتفاق باختراع قانون داخلي جديد يلغي أي اتفاق حتى وإن كان برعاية دولة ثالثة وتحت إشراف الصليب الأحمر الدولي.
نائل البرغوثي بعد قضائه خمسة وثلاثين عاماً في الأسر -يمثل الآن أمام المحكمة العسكرية الإسرائيلية من جديد، ليكتشف أن ذهان الاضطهاد والانعزالية يسيطران على القاضي وهو يتملص من روح القانون والعدالة.
علاء البازيان الكفيف يرى حوله سجانين يحاولون خلع عينيه مرة أخرى بعد أن اكتشفوا أنه كان يرى القدس والحرية أكثر كثافة بالسجن على مدار تسعة وعشرين عاماً ومكتفياً بحمل البشارة.
سامر العيساوي المخطوف من بيته مع شقيقه وشقيقته أطلق جوعه طويلاً طويلاً، ولم يقتنع جهاز المخابرات الإسرائيلي أنه لا يتحرك متناغماً بين الكلام والصلاة والإشارة.
عثمان مصلح (أبو الناجي) صاحب ابتسامة بحجم السماء يعود مرة أخرى إلى السجن متعثراً بما تيسر له من حياة سابقة، لن يكون على مائدة الإفطار الأولى له في شهر رمضان بعد قضاءه ثلاثين عاماً خلف القضبان، يوقظه الآن السجان وليس صوت الآذان ولا صوت أولاده ولا المسحراتي يجوب شوارع الحارة.
المتملص في شهادته بعد أسره لم يتحدث عن سوء معاملة جرت معه، ولا عن إجراءات مشددة ضده، وهو سعيد بحريته وعودته إلى أمه وأبيه، تاركاً خلفه الآلاف من الأسرى الفلسطينيين غير السعيدين، والأمهات المعذبات اللواتي وقفن على حاجز الدفعة الرابعة مصدومات بسبب إغلاق "إسرائيل" بوابات المفاوضات الجدية والتسوية السياسية العادلة، متملصة للمرة الألف من الاتفاقيات والتفاهمات متباهية بقدرتها على المناورة والمساومة.
المتملص عاد إلى "إسرائيل"، فبدأت حكومته بإعداد مشروع قانون لمنع العفو والإفراج عن أسرى في أي اتفاقيات سياسية أو صفقات تبادل، كأن شاليط سيكون آخر الجنود الإسرائيليين الذين وقعوا في الأسر، وتسابق أعضاء الكنيست المتطرفين في "إسرائيل" بشكل محموم لسن تشريعات كثيرة عنوانها الهجوم على الأسرى والتضييق عليهم في الحياة والآخرة.
لم يخطر في بال المتملصين أن ثلاثة مستوطنين سوف يضيعوا في شوارع الضفة الغربية بعد أن اقتربوا مع مستوطناتهم إلى داخل غرف نوم الفلسطينيين ومزارعهم وأحلامهم غير مدركين أن من يختار أن يبقى محتلاً عليه أن يدفع ثمن الاحتلال بطريقة أو بأخرى، فلا يوجد احتلال جميل وسهل، ولا يوجد قانون يمنع الضحية أن تتمرد على عذابها في لحظة معينة.
متملصو القانون في "إسرائيل" تركوا عصابات ما يسمى "جباية الثمن" من المستوطنين ترتكب جرائم واعتداءات على الفلسطينيين، ولم يفتحوا أي تحقيق جنائي في ملفات هذه الاعتداءات إلى أن وقعت الواقعة، فتعثر بعض المستوطنين بدمهم ودمنا، ولم يسعفهم حينها نشيد هتكفا ولا أسطورة الوعد التائهة.
المتملصون في "لجنة شمغار" الإسرائيلية لازالت تعمل على إيقاع الحرب والصراع عندما قدمت توصيات تقضي بأن تطلق "إسرائيل" سراح أسير واحد مقابل كل أسير إسرائيلي، ولم توصي هذه اللجنة بالأهمية المشتركة لإطلاق سراح الأسرى خلال عملية "سلام عادل" أو مفاوضات بين الطرفين وبدون قطرات دماء، مدعية أن الرئيس أبو مازن يمارس "الإرهاب الدبلوماسي" يستفزهم عندما يسعى لأن يكون معيناً أخلاقياً لهم للتخلص من عقدة الاحتلال.
المتملص جلعاد شاليط هو اسم لسياسة إسرائيلية تعتقد أن إنسانها وحده هو المقدس وأن ما عدا ذلك يستحق الموت أو السجن، وكلما تملصت من حرب أو "سلام" كلما غرقت أكثر في البحث عن مخرج للهواء لم يعثر عليه "جهاز الشاباك الذكي" ولا قوانين "الأبرتهايد" الراقصة في أروقة المجانين.
المتملص هو ضحية الاحتلال الذي أسر وهو يطلق النار، ولكنه أنتج بعده ضحايا كثر لا تعترف بهم حكومة "إسرائيل" وتسعى لإلغائهم من المكان والذاكرة والرواية.
أيها المتملص:
من أنت في حضرة "الآن"؟
من أنت في حضرة الأمس؟
لا شيء يدل عليك
غير موتي
وموتي لا يعطيك بعدي
حق الحياة....