مجزرة مخيم النصيرات، التي راح ضحيتها 220 شهيداً فلسطينياً، لم تُنهِ مشكلات" إسرائيل" الاستراتيجية التي ظهرت بصورة جلية منذ السابع من أكتوبر، وفي مقدمتها قضية الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة.
على رغم أن "الجيش" الإسرائيلي استطاع تحرير أربعة من الأسرى لدى المقاومة الفلسطينية، في عملية يتفاخر فيها الإعلام الإسرائيلي عبر مراسليه العسكريين، وجعلت رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يضرب حرمةَ يوم السبت بعُرض الحائط، ويلهث وراء كاميرات الإعلام لاستثمار تلك اللحظة لحساباته السياسية، فإن مجزرة مخيم النصيرات، التي راح ضحيتها 220 شهيداً فلسطينياً، أغلبيتهم العظمى من الأطفال والنساء، وتم قصف 80 بيتاً فلسطينياً على سكانها، في مختلف مناطق المحافظة الوسطى في غزة، لم تُنهِ مشكلات" إسرائيل" الاستراتيجية التي ظهرت بصورة جلية منذ السابع من أكتوبر، وفي مقدمتها قضية الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة الفلسطينية في غزة.
وعلى رغم ما واكب مجزرة النصيرات من هالة إعلامية إسرائيلية، ومنحها كثيراً من اللمسات الهوليوودية السينمائية، على مستوى التحضير والاستعداد والتنفيذ والجرأة في اتخاذ القرار، فإنه لا يمكن النظر إليها على المستوى الاستراتيجي، على أنها أسلوب ونهج استراتيجيان عمليان وفعالان لحل معضلة الأسرى الإسرائيليين، البالغ عددهم 120 إسرائيلياً في غزة في يد المقاومة، الأمر الذي يؤكد مجدداً ما كرره كثيرون من الناطقين باسم فصائل المقاومة، ومفاده أن الحل الوحيد للإفراج عنهم ليس له إلا مدخل واحد ووحيد عبر صفقة مع المقاومة الفلسطينية، الأمر الذي اعترفت به مجموعة كبيرة من الكتاب والمحللين والخبراء الإسرائيليين في تعليقهم الأولي على مجزرة النصيرات.
فقد كتب ناحوم برناع، بصراحة، في مقاله "نجاح القوة، ومحدوديتها" في صحيفة "يديعوت أحرونوت"، بعد يوم واحد من العملية، أن "لا طريق لتخليص الأسرى الإسرائيليين جميعهم، أو حتى أغلبيتهم، والبالغ عددهم 120، والذين، بحسب تقديرات "الجيش" نصفهم أحياء، بعمليات عسكرية، وإذا كان هناك أحد يعتقد أن عملية الأمس (مجزرة النصيرات) تعفي الحكومة من إتمام صفقة مع المقاومة فهو يعيش في وهم".
بل إن البعض في "إسرائيل" حذّر من تداعيات تلك العملية السلبية على ملف الأسرى الإسرائيليين في غزة، وخصوصاً على طريقة تعامل المقاومة مع الأسرى اليومية، ووسائل الاحتفاظ بهم، وهذا ما عرّج عليه يسرائيل زيف، رئيس العمليات الأسبق في "الجيش" الإسرائيلي، فشهادات الأسرى الإسرائيليين تؤكد المعاملة الحسنة التي كانوا يتلقونها من رجال المقاومة، وأنهم كانوا يشاهدون التلفاز، بل أكدت الأسيرة نوعا أرغماني" أن رجال المقاومة كانوا يخرجونها إلى الهواء الطلق من حين إلى آخر متخفية بلباس امرأة فلسطينية، وأقرت بأن الخطر الأساسي على حياتها ومن معها من أسرى كان مصدره الوحيد صواريخ "الجيش" الإسرائيلي، الذي قصف البيت الموجودة به رفقة الأسيرين يوسي شرعفي وإيتي سبيريسكي، الأمر الذي أدى إلى مقتلهما ونجاتها بأعجوبة من الموت المحقق.
لذلك، كان من الطبيعي جداً أن يخرج الناطق باسم كتائب القسام أبو عبيدة موضحاً أن مجزرة النصيرات "ستشكل خطراً كبيراً على أسرى العدو، وسيكون لها أثر سلبي في ظروفهم وحياتهم".
وهنا يجب الإشارة إلى أن اتخاذ كل من قيادة "الجيش" الإسرائيلي، وخلفها القيادة السياسية، قرار تنفيذ مجزرة النصيرات دليل واضح على استخفافهما المؤكد بحياة الأسرى الإسرائيليين، وأن حياتهم ليست أولوية أمام مصلحة تلك القيادات. فمن جهة، يسعى رئيس الأركان هرتسي هليفي، المتهم بالفشل من جانب جنرالاته، إنهاء حياته العسكرية بنجاح عمليات ولو محدود، يغطي على فشله الاستراتيجي في السابع من أكتوبر، ويوافق على تنفيذ عملية معقدة كان من السهل جداً أن يكون مصير الأسرى الأربعة الموت.
ومن جهة أخرى، رئيس وزراء متأزم، داخلياً وخارجياً، يتعامل مع ملف الأسرى كورقة سياسية في حساباته الانتخابية، فتجده في ظل نشوة تحرير الأسرى الأربعة يناكف خصمه السياسي، بني غانتس، ليستغل العملية لحساباته السياسية الضيقة، ذلك بأن عوائل الأسرى الإسرائيليين، أمام هذا المشهد، سارعت إلى الخروج إلى الشوارع تتظاهر موحَّدةً تحت شعار "الصفقة الآن".
على رغم نجاح "الجيش" الإسرائيلي في تحرير أربعة أسرى من مخيم النصيرات بعد مجزرة مروعة بالسكان المدنيين، فإن لم يستطع تحرير نفسه من الإشكالات الاستراتيجية التي تواجه "إسرائيل" في كل الجبهات، سواء الجبهة الشمالية أو اليمنية والعراقية، ولا حتى في الجبهة الدولية ونبذ إسرائيل" دولياً وعزلتها كـ"دولة" مارقة.
والأهم أن عملية النصيرات لم تؤثر إيجاباً في حل الخلافات الداخلية الإسرائيلية، الجبهة الأكثر احتداماً وخطورة على مستقبل "إسرائيل".
فبعد يوم واحد فقط يعلن رئيس المعسكر الرسمي بني غانتس وشريكه رئيس الأركان السابق غادي آيزنكوت خروجهما من حكومة الطوارئ، معلنَين العودة إلى صفوف المعارضة الساعية بكل الطرائق لإسقاط نتنياهو وحكومته، إيذاناً ببدء مرحلة الانقسام الحاد، كما كانت الحال في السادس من أكتوبر 2023، وعلى الصعيد الشعبي البهجة الصهيونية الواسعة بعودة الأسرى الأربعة، أثبتت مدى الإجماع على أهمية تحرير الأسرى في "المجتمع" الإسرائيلي، والذي حاول نتنياهو، على مدار الأشهر الثمانية السابقة، تحويلها إلى قضية خلافية بين شرائح "المجتمع" الإسرائيلي.
والأهم أنه رافقت هذه البهجةَ الإسرائيلية قناعةٌ تامة لدى المستويات الشعبية والأمنية والعسكرية بأن لا حل لعودة الأسرى الإسرائيليين إلا بالوسائل الدبلوماسية، الأمر الذي سيشكل ضغطاً كبيراً على حكومة نتنياهو الضيقة، وخصوصاً مع تزايد أزمة قانون التجنيد للحريديم.
وبذلك، فإن عملية النصيرات فتحت الباب واسعاً للضغط الإسرائيلي الداخلي على نتنياهو وحكومته للذهاب إلى صفقة تبادل أسرى، لم يكن في خاطرهما عندما اتخذا قرار تنفيذ العملية.