ماذا بعد انتهاء عملية رفح! وأيّ أهداف سيسعى الاحتلال لتحقيقها بعد هذه السلسلة الطويلة من الإخفاقات! وما الحجج والمبررات التي سيسوّقها للتغطية على جرائمه المتواصلة بحق المدنيين، من نساء وأطفال وشيوخ!
وهي تقترب من نهاية شهرها الثامن، تبدو الحرب التي يشنّها العدو الصهيوني على قطاع غزة، مدعوماً من كل قوى الشر في العالم بزعامة الولايات المتحدة الأميركية، كأنها تدور في حلقة مفرغة، إذ إنها، على الرغم من استمرار اشتعال نيرانها كل هذه المدة الطويلة، والتي يكتوي بلظاها عشرات آلاف المواطنين الفلسطينيين من سكان القطاع المحاصر والمنكوب، وما يرتبط بذلك من عدوان وإجرام متواصلين يستهدفان مدن الضفة الغربية المحتلة ومخيماتها، إلا أنها فقدت معظم مشروعيتها في نظر كثيرين من الذين خُدعوا بشعاراتها على مستوى العالم، بل فقدت كثيراً من الحماسة والتأييد اللذين حظيت بهما عند انطلاقها بين الإسرائيليين أنفسهم، والذين باتوا يعتقدون، كما يشير عدد من استطلاعات الرأي، أن هذه الحرب تحوّلت إلى حرب عبثية، يسعى من خلالها رئيس وزراء الكيان العبري وأعضاء ائتلافه المتطرف للمحافظة على رؤوسهم، التي من المُتوقع أن يتم قِطافها سياسياً في اليوم الثاني من انتهاء هذه الحرب المجنونة والظالمة.
منذ بداية العملية العسكرية البرية ضد مدن القطاع ومخيماته، في السابع والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي، والتي وضع لها قادة الاحتلال أهدافاً ثلاثة، جاء في مقدمتها القضاء على المقاومة، تحت شعار تفكيك الكتائب المقاتلة، إلى جانب استعادة الأسرى الصهاينة من خلال القوة العسكرية، بالإضافة إلى إيجاد جهة فلسطينية ما تدير حياة المواطنين في غزة، على غرار روابط القرى، أو جيش لحد في جنوبي لبنان؛
منذ ذلك الحين يحرص العدو الصهيوني على وضع عناوين عريضة لمجمل عملياته العسكرية في مدن القطاع المتعددة، محاولاً من خلال بروباغندا منفصلة تماماً عن الواقع تحقيق إنجازات وهمية، وبطولات شكلية، تعويضاً من الإخفاق الهائل الذي عاناه طوال فترة الحرب، التي فشل من خلالها في تحقيق أي هدف من تلك التي صدَع رؤوس العالم بها، والتي باتت مثار تهكم واستهزاء، حتى في أوساط الإسرائيليين أنفسهم.
في العمليات العسكرية المتعدّدة التي استهدف من خلالها "جيش" العدو المدن والمخيمات الفلسطينية، مستخدماً مقداراً كبيراً من القوة المفرطة، والتي أدّت إلى إحداث ضرر غير مسبوق في البنى التحتية، في كل أنواعها، بالإضافة إلى سقوط عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى والمفقودين، تعمّد "جيش" الاحتلال وصف تلك العمليات قبل بدئها بأنها حاسمة وقاطعة وذات نتائج عملياتية عظيمة، وستشكّل النهاية المنتظرة للمعركة الكبرى والقاسية التي تجرى بين الأزقة والشوارع في مدن القطاع ومخيماته، إذ سبق له أن مهّد اجتياحه الأول لمستشفى الشفاء وسائر مستشفيات القطاع بأنه يهدف إلى القضاء على غرف عمليات المقاومة المقامة أسفلها، على حد زعمه، وأن هناك أسرى صهاينة يعالَجون فيها، إلا أن هذا الأمر بانَ كذبه بعد سيطرته على تلك المؤسسات الصحية، وظهر للعالم، على نحو لا يقبل التأويل، أن الهدف الأساسي كان تدمير تلك المراكز الحيوية، وإخراجها عن الخدمة بصورة كاملة، وهو الأمر الذي قام بتنفيذه على الرغم من سيل الانتقادات والمناشدات، بعد تكرار مهاجمة تلك المستشفيات، تحت عناوين مضلّلة وكاذبة.
في عمليات أخرى، مثل عملية خان يونس، جنوبي قطاع غزة، والتي أطلق عليها في حينها لقب "ام المعارك"، وبرّرها حينذاك بوجود قادة المقاومة فيها، إلى جانب العدد الأكبر من أسراه العسكريين، بحيث استمر القتال تحت هذه العناوين أربعة أشهر ونيّف، دمّر خلالها الاحتلال اكثر من ثلثي المدينة، وأخرج مستشفياتها الرئيسة، ومؤسساتها الحيوية عن الخدمة، وقتل وشرّد معظم أهلها الذين يزيدون على خمسمئة ألف نسمة، بالإضافة إلى عشرات آلاف النازحين من مناطق أخرى، فإنه اضطر في نهاية المطاف إلى الخروج من كامل جغرافيا خان يونس، مُثْقَلا بخسائر فادحة في أوساط الجنود والضباط، ومن دون تحقيق أي إنجاز يُذكَر، كما هي العادة.
هذه الحال تكرّرت قبلها وبعدها، في الشجاعية وجباليا والزيتون والبريج والمغازي، وفي كل مكان وصلت إليه آلة الاحتلال المجرمة، إلا أن النتائج السابقة ذاتها تكررت أيضاً، حيث الإخفاق والفشل، بالإضافة إلى ارتفاع عدّاد القتلى والجرحى من جنود الاحتلال، مضافاً إليهم تنديدٌ واستنكار واسعان من معظم دول العالم، وصلا في بعض الأحيان إلى دول كانت تُعَدّ، في يوم من الأيام، صديقة لهذا الكيان المجرم، والذي أصبح يُصنَّف، بحسب المحاكم الدولية والجنائية، كياناً مارقاً، ارتكب جرائم إبادة جماعية بحق مدنيين عزّل، واستخدم سلاح الجوع والإفقار لمعاقبة اكثر من مليونين وربع مليون فلسطيني، في خرق واضح وفاضح لكل القوانين والمعاهدات الدولية، والتي تنص كلها على وجوب حماية المدنيين في أوقات الحرب.
آخر صيحات البروباغندا الصهيونية كانت تتعلّق بمحافظة رفح، أقصى جنوبي القطاع، حيث استمرت ماكينته الإعلامية، والناطقون باسمه، من سياسيّين وعسكريين، وسائر جوقة القتلة ومجرمي الحرب، في التلويح باقتحامها مدةً تزيد على أربعة أشهر، إذ لم يتركوا مناسبة إلا هدّدوا فيها باحتلال المدينة، وتفكيك كتائبها، وسحق مقاتليها، بالإضافة إلى تدمير الأنفاق التي تصل بين المحافظة الجنوبية من جهة، ومدينة رفح المصرية في الضفة الأخرى من الحدود، من جهة اخرى، والتي كانت تُستخدم من أجل أغراض تجارية بحتة في إبّان تشديد الحصار على القطاع بعد مرحلة الانقسام الداخلي في عام 2007، ومارسوا كل أنواع الكذب والتضليل من أجل تحاشي الانتقادات الدولية، التي كانت تطالب بعدم اقتحام المدينة بسبب العدد الهائل من النازحين الموجودين فيها، إلى جانب وجود معبر رفح، وهو الشريان البري الوحيد الذي يربط قطاع غزة بالعالم الخارجي.
إلا أن الاحتلال، كما العادة، ضرب بعُرض الحائط كلَّ تلك المطالبات والمناشدات، وقام، بغطاء من حليفه الأميركي، سياسياً وقانونياً، باقتحام المدينة، واحتلال معبرها الحيوي، وقطع المساعدات التي تدخل منه للقطاع المحاصر، ومنع خروج المصابين والمرضى الذين هم في حاجة ماسّة إلى السفر إلى الخارج، بالإضافة إلى السيطرة على محور صلاح الدين، "فيلادلفيا"، عند الحدود الفلسطينية - المصرية، مرتكباً في الطريق نحو هذه السيطرة مجازر يندى لها جبين الإنسانية، كان آخرها قصف مراكز إيواء النازحين في غربي المدينة، قرب مستودعات وكالة الغوث وتشغيل اللاجئين، "الأونروا"، والذين كانوا يوجَدون في منطقة تم تصنيفها، إسرائيلياً، منطقةً آمنة، إلى جانب إخراج المستشفيات الحكومية والميدانية عن الخدمة، في تجاوز واضح لكل الأعراف والقوانين ذات الصلة، وفي انتهاك صارخ لمبادئ الأمم المتحدة، التي تنص على حق المواطنين في تلقّي الخدمات الصحية بغض النظر عن الظروف المحيطة.
حتى لحظة كتابة هذا المقال، ما زالت العملية العسكرية الإسرائيلية في رفح مستمرة، ولا يُتوقَّع أن تنتهي قريباً، ولاسيما في ضوء عدم تحقيق أي إنجاز من تلك التي بشّر بها نتنياهو ومجلس حربه، الذي يقترب بشدة من التفكّك، والتي وعدوا فيها باستعادة الأسرى الإسرائيليين، كما جرى في خان يونس وغيرها، والقضاء على المقاومة وسحقها.
وهي، أي هذه العملية، مرشحة للتوسّع لتشمل كل جغرافيا رفح من شرقيها حيث منطقة الشوكة والجنينة والسلام، مروراً بوسطها في تل السلطان والبرازيل وتل زعرب، وصولاً إلى حدودها الغربية والشمالية الغربية، حيث الحي السعودي وخربة العدس وغيرهما من المناطق، في حال لم يحدث أي جديد بخصوص مفاوضات وقف إطلاق النار.
بغض النظر عما سيترتب عن هذه العملية من نتائج، سواء ميدانياً وعملياتياً، أو فيما يتعلّق بمستقبل معبر رفح، والذي يسعى الاحتلال لتحويله إلى ورقة ضغط يبتز من خلالها المقاومة، من خلال اشتراط إدارته من جانب شركات أمنية خاصة، ولاسيما أميركية، أو بواسطة جهات عربية معينة تتبع لبعض الدول صاحبة التاريخ الطويل في تبادل المعلومات الاستخبارية مع الاحتلال، بغض النظر عن كل ذلك وغيره كثير مما لا يتسع المجال لذكره، فإن السؤال الأهم، الذي يتبادر إلى أذهان كثيرين، وبات يتردد صداه في كثير من المنابر، حتى تلك التابعة لوسائل إعلام إسرائيلية: ماذا بعد انتهاء عملية رفح! وأيّ أهداف سيسعى الاحتلال لتحقيقها بعد هذه السلسلة الطويلة من الإخفاقات! وما الحجج والمبررات التي سيسوّقها للتغطية على جرائمه المتواصلة بحق المدنيين، من نساء وأطفال وشيوخ!
في حقيقة الأمر، تبدو السيناريوهات المتوقعة بعد انتهاء عملية رفح كثيرة، ومعقّدة، وهي، في معظمها، لا تشير إلى إمكان توقف الحرب، او انخفاض نسقها، بصورة كبيرة، إلا إذا حدث أمر ما قد يبدو دراماتيكياً وخارجاً عن المألوف، يقلب الأمور رأساً على عقب، ويخالف كل السيناريوهات التي نطرحها، بناءً على ما نعرفه من معطيات ميدانية وسياسية.
أكثر السيناريوهات ترجيحاً هو تحول المعركة في قطاع غزة إلى ما يشبه حرب الاستنزاف، بحيث تستمر العمليات العسكرية وفق النسق نفسه، الذي نراه في الفترة الأخيرة، وهو نسق متوسط في معظم الأحيان، في حالة أقرب إلى ما يحدث في مدن الضفة المحتلة، مع اختلاف في الوسائل العسكرية المستخدَمة في كِلا الجانبين، إذ إنها في غزة تتنوّع بين الطائرات الحربية والدبابات وناقلات الجند والمدفعية الثقيلة وغيرها، بينما تقتصر، في الضفة، على أدوات أقل فتكاً، مع إمكان توسيع مناطق السيطرة العملياتية المطلقة لجيش الاحتلال على غرار محور "نتساريم" وسط القطاع، والذي يقوم الاحتلال، منذ شهرين تقريباً، بتوسيع مساحة الأمان في جانبيه الجنوبي والشمالي، إذ إن هناك معلومات عن قيام الاحتلال بشق طريق مماثل يفصل بين مدينة غزة ومحافظة الشمال، بالإضافة إلى آخر يفصل بين المنطقة الوسطى وجارتها الجنوبية، وهذا الأمر، إن تمّ فعلاً، فإنه سيكون مقدمة لعودة بعض التجمعات الاستيطانية في المناطق العازلة التي بدأت تتضح ملامحها مؤخراً نتيجة نسف مربعات سكنية وتجارية كبيرة في مناطق متعدّدة من القطاع، وتدميرها.
هذه الفرضية ستجعل عودة جيش الاحتلال إلى مهاجمة المناطق التي هاجمها سابقا أمراً لا مفر منه، كما حدث في مخيم جباليا وحي الزيتون مؤخراً، إذ إنه سيكون مضطراً إلى إشغال قواته في مهمّات عملياتية تُبرر بقاءهم في أراضي القطاع، ويحاول من خلالها أيضاً تحقيق ما لم ينجح في تحقيقه خلال الفترة الماضية، وهو يستخدم، في سبيل ذلك، مروحة واسعة من الأكاذيب والافتراءات، التي يبرر عبرها استمرار تلك العمليات.
ثاني السيناريوهات هو اقتصار الهجمات الإسرائيلية على بعض المناطق، التي لم يقم بالهجوم عليها بصورة موسّعة، حتى الآن، وخصوصا مدينة دير البلح في المنطقة الوسطى من قطاع غزة، والتي تحوّلت إلى مقصد لعشرات الآلاف من النازحين بعد الهجوم على رفح.
وتم التركيز كثيراً، في الشهرين الأخيرين، على هذه المدينة، وتعرضت لقصف جوي عنيف في كثير من المرات، إلى جانب مناطق، مثل الزوايدة وغرب مدينة النصيرات ووسطها، بالإضافة إلى مناطق أخرى في مدينة غزة، كحيّ الدرج والصحابة، على سبيل المثال.
هذا السيناريو مرشَّح بقوة للحدوث في الفترة المقبلة، وخصوصاً أننا نعرف، من خلال التجربة، أن "جيش" الاحتلال يحاول تدمير كل ما تبقى من مناطق صالحة للسكن، ولاسيما تلك التي تعود فيها الحياة إلى شبه طبيعتها، ويوجد فيها بعض الخدمات الأساسية، من مياه ومستوصفات صحية، بالإضافة إلى الأسواق الشعبية التي توفر الحد الأدنى من متطلبات الحياة الصعبة والقاسية في القطاع المنكوب.
ثالث السيناريوهات، والذي يبدو أقل ترجيحاً من سابقَيه، هو انخفاض نسق الهجمات الإسرائيلية إلى حدّها الأدنى في قطاع غزة، وتحوّلها إلى عمليات استهداف من الجو، وتنفيذ عمليات اغتيال ضد عناصر المقاومة وقادتها، في مقابل تصعيد لافت في الجبهة الشمالية لفلسطين المحتلة، إذ إن نسق العمليات في تلك الجبهة ارتفع بصورة واضحة، ولاسيما مع توسيع حزب الله عملياته الهجومية ضد المواقع العسكرية الإسرائيلية، والزيادة الكبيرة في حجم الخسائر التي تصيب الجانب الصهيوني، سواء على صعيد الجنود والضباط، أو فيما يخص الإمكانات العسكرية، ولاسيما أجهزة التجسّس والمراقبة، والتي تنتشر بكثرة عند طول الحدود بين فلسطين ولبنان.
هذا الاحتمال، إن بدا أقل ترجيحاً، كما أسلفنا، من سابقيه، فإنه يبقى قابلاً للحدوث، وخصوصاً في ظل كثير من التصريحات الإسرائيلية في هذا الصدد، والزيارات المتعددة التي يقوم وزير الحرب يوآف غالانت، وقادة آخرون، لتلك الجبهة، التي تحوّلت، بحسب كل المعطيات، إلى جبهة استنزاف رئيسة لـ"الدولة العبرية"، من دون أن تتمكن من إيجاد الحلول الملائمة للتعاطي معها، أو إخراجها من معادلة الصراع، الذي يقترب من التحول إلى صراع إقليمي في حال توافَرَ بعضُ الشروط والمواصفات.
في كل حال، بغضّ النظر عما يمكن أن تحمله الأسابيع والأشهر المقبلة من تطورات وأحداث على صعيد الميدان، أو فيما يتعلّق بالتحولات السياسية، التي ستنتج من هذه الحرب، فإن ما جرى، صبيحةَ السابع من تشرين أول/أكتوبر من العام المنصرم، سيبقى نقطة تحوّل مفصلية في تاريخ القضية الفلسطينية، وربما في تاريخ المنطقة والعالم أيضاً، إذ إن ما حدث، في تلك اللحظات الدراماتيكية من مفاجآت أذهلت العالم، كتب فصلاً جديداً في تاريخ الصراع بين الشعب الفلسطيني ومحور المقاومة من جهة، وبين الكيان الصهيوني وسائر محور الشر من جهة أخرى.
وهذا الفصل يشير، على نحو لا يدع مجالاً للشك، إلى أن الزمن الذي كانت تُعَدّ فيه "إسرائيل" مهيمنة ومقتدرة وقوية انتهى إلى غير رجعة، وأن القوى الشريفة، ذات الخلفية العقائدية الصلبة، والتي تقف في وجهها الآن، وتتصدى لمشاريعها الإجرامية، ليست كتلك القوى الفارغة والمنهارة، والتي كانت تخسر المعركة قبل بدايتها.
نحن على ثقة بان القتلة والمجرمين لن ينتصروا في هذه المعركة الكبرى، وأن التضحيات العظيمة التي قدمها الشعب الفلسطيني البطل، وما زال، والشعوب الحرة والعزيزة في لبنان وسوريا والعراق واليمن، لن تذهب سدى، وستُزهر نصراً وعزّاً عمّا قريب، بإذن الله تعالى.