بقلم: محمد هلسة
كان لافتاً تلعثم غانتس حين سُئل في المؤتمر الصحفي الذي عقده قبل يومين عن سبب تأخير استقالته إلى الثامن من حزيران/ يونيو 2024، على الرغم من أن الأمور قد وصلت في "إسرائيل" إلى هذا السوء، وفق توصيفه!
وقبل أن نذهب إلى تحليل سبب تأخير الاستقالة والمهلة الممنوحة لنتنياهو، دعونا بدايةً نعود بالذاكرة قليلاً إلى الوراء لنعرّج على الدوافع الكامنة خلف انضمام غانتس إلى حكومة الطوارئ مع بداية الحرب الإسرائيلية على غزة.
في الواقع، لا يحتاج المرء إلى كثير تمحيصٍ ليصل إلى استنتاجٍ مفاده أن هذا الانضمام خدم ثلاثة أطراف رئيسية في الداخل الإسرائيلي؛ أولها هو المجتمع الإسرائيلي الذي مَنَحه وجود جنرالَي حزب "مُعسكر الدولة" غانتس وآيزنكوت، الشعور بالطمأنينة والرضى عن قيادة إدارة المعركة التي تتمتع بالمعرفة والخبرة العسكرية الطويلة، بخلاف شعور القلق الذي كان ليعتري المجتمع فيما لو بقيت الأمور في يدي "الصبيّيْن" بن غفير وسموترتش حديثَي العهد بالسياسة وإدارة الأزمات والحروب.
ثانياً، هذا الرضى الشعبي انعكس في الثقة والأفضلية التي منحتها استطلاعات الرأي لغانتس وحزبه في مقابل نتنياهو، فقد استطاع غانتس أن يظهر أمام الجمهور الإسرائيلي كمن يُقدّم مصلحة الدولة في وقت الأزمات والشدائد على مصلحته الشخصية والحزبية، خاصة وأنه "تسامى" على الخصومة الطويلة مع نتنياهو وآثر الانتقال من المعارضة إلى صفوف الائتلاف الحاكم.
ثالثاً وأخيراً، فإن انضمام غانتس إلى مجلس الحرب منح نتنياهو، الذي ارتأى مع بداية الحرب، تشكيل حكومة طوارئ قومية لتأطير صورة "وحدة وطنية"، شعوراً بالثقة أمام شعبه وهو يدير المعركة بنخبة من ذوي الاختصاص والخبرة، وجنّبه النقد الذي كان من الممكن أن يطاله فيما لو أن إدارة المعركة بقيت رهناً بيدي شركائه "المراهقين" من اليمين القومي الصهيوني.
وبالعودة إلى الإنذار الذي وجّهه غانتس، رئيس حزب "معسكر الدولة"، لنتنياهو وطالبه فيه بتطبيق خطة من ست نقاط لإدارة الحرب، وأمهله حتى الثامن من حزيران/يونيو للالتزام بها، وإلا فإنه سيستقيل من حكومة الطوارئ، فإنه من الواضح أن غانتس ساق جملة من الأسباب والمبررات التي دعته إلى تبني هذا الموقف، أهمها "أن الاعتبارات السياسية الخاصة بنتنياهو ويمينه الحاكم تغلغلت في إدارة هذه الحرب".
فما الذي دعا الرجل إلى المغامرة بتحدي نتنياهو بهذه الصورة الحادة ووضعه أمام اختبار الساعة الرملية، وهو يعلم أن خروجه من الحكومة لن يوثر في استقرار ائتلاف نتنياهو (المتين أصلاً قبل تشكيل حكومة الطوارئ)، ولن يردع نتنياهو عن الاستمرار في هذه الحرب حتى النهاية!
اللافت، من استقراء مضمون خطاب غانتس، أنه لم يخرج عن الإجماع الإسرائيلي العام في المواقف المختلفة من الحرب، والدولة الفلسطينية، فقد أكد ضرورة استمرار الحرب للقضاء على حماس ونزع سلاحها، وضرورة استعادة الأسرى، وإعادة مستوطني الشمال إلى منازلهم، ورفضِ وجود السلطة الفلسطينية لإدارة القطاع بعد الحرب، ثم ذهب أخيراً إلى التذكير بأهمية التطبيع، فيما لم ينسَ لوم السنوار على تعطيل الصفقة. والواضح أن هذه كلها مواقف سبق لنتنياهو أن عبّر عنها في مناسبات مختلفة، وهو، أي نتنياهو، قادرٌ على التعايش مع كل هذه الاشتراطات باستثناء القضية الخلافية الوحيدة، وهي قانون التجنيد الإجباري للمتدينين الحريديم، إذ يدرك نتنياهو أن تهديداً صغيراً من موشيه غافني، شريكه في الائتلاف وزعيم حزب "يهدوت هتوراة" الحريدية، أو من مجلس حكماء التوراة، يمكن أن ينتهي بحل الحكومة من دون تردد.
وفي ظننا أنه لن يكون لدى رئيس وزراء الاحتلال أي مشكلة في التصريح، على الأقل شفهياً وأمام وسائل الإعلام، بأنه معنيٌ بنزع سلاح المقاومة في القطاع، وتفكيك حماس، وإعادة "المختطفين" (على الرغم من أن الجمهور الإسرائيلي ينتظر وعوده بهذا الشأن منذ سبعة أشهر).
كما أن اتخاذ خطوات نحو التطبيع مع السعودية وعودة مستوطني الشمال إلى منازلهم في أقرب وقت ممكن سيحظيان بترحيب كبير بين غالبية أعضاء تحالف نتنياهو. من المؤكد أن الطريق لفعل ذلك لن تكون معبّدة بالورود، وستكون هناك عقبات كبيرة، لكن يمكن التقدير أنه إذا كان وجود غانتس في الحكومة لا يزال مهماً بالنسبة إلى نتنياهو، فإنه لن يعدم الوسيلة لإيجاد طريقة لتلبية مطالب الرجل، فهل يفعل؟
يبدو أحد السيناريوهات، ضعيف الاحتمال، أن تعتمد الحكومة "خطة عمل جديدة" بناء على طلب غانتس، بحيث يضمن نتنياهو بقاءه في الحكومة ويجنب نفسه إمكانية التصويت على حل حكومته في دورة الكنيست الصيفية ومدتها شهران، بدأت فعلياً يوم الاثنين (20/05/2024).
وفق هذا التقدير، من المتوقع أن يصمد نتنياهو وحكومته على الأقل حتى عام 2025، وذلك لأن الكنيست، بعد انتهاء دورتها الصيفية، ستدخل في عطلة أخرى حتى الدورة التالية التي ستنعقد في نهاية شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2024، أي بعد الأعياد. وعلى افتراض التصويت (المستبعد) على حل الكنيست، في الدورة التالية، سيستغرق الأمر ثلاثة أشهر على الأقل إلى حين إجراء انتخابات برلمانية جديدة، لذا فإن الموعد المحتمل لتشكيل حكومة جديدة لن يتم قبل الثلث الأول من العام 2025.
السيناريو الآخر، الأكثر ترجيحاً، هو أن حدثاً مُعيناً في الحرب سيدفع غانتس إلى التغاضي عن المُهلة النهائية والبقاء في الحكومة، كأن تندلع مواجهة مفتوحة وواسعة في شمال فلسطين مع حزب الله، أو أن تحدث انفراجة في مفاوضات إطلاق سراح الأسرى، حينها لن يعدم غانتس إيجاد ذريعة للبقاء في الحكومة.
أما السيناريو الأخير المفترض، فهو أن يستقيل غانتس عند انتهاء مهلة الإنذار أو قبلها، بسبب الفشل في تحقيق الأهداف التي حدّدها، بحيث تظل الحكومة مستقرة، وهي التي تعتمد أصلاً على أغلبية برلمانية من 64 مقعداً، عندها سيقفز سموترتش وبن غفير إلى موقع أكثر تأثيراً في الحرب ويدفعان إلى توسيعها وتصعيدها.
يبدو خطاب غانتس اليوم، وقد استنفدت حكومة الطوارئ أهدافها، استعراضاً انتخابياً مفضوحاً، حاول فيه الإمساك بالعصا من المنتصف بعدم إعلان الاستقالة الفورية، وهو يعلم أنه لا تأثير مباشراً لها على استقرار ائتلاف نتنياهو. فحين كانت استطلاعات الرأي الإسرائيلية تُمنح غانتس أفضلية كبيرة على نتنياهو، استمر في إدارة خِلافه معه داخل مجلس الحرب، لكنه حين شعر بأنه بدأ يفقد الأفضلية في استطلاعات الرأي استشعر ضرورة الانسحاب للمحافظة على ما تبقى من رصيده الانتخابي.
ولا شك في أن ما فعله غانتس يتقاطع كذلك، مع ما ترغب الولايات المتحدة في رؤيته يتحقق لكنها تعجز عن استدراج نتنياهو لفعله، لذا ربما يُنظر إلى خطاب غانتس كغمز للإدارة الأميركية التي تتمنى حدوث تحوّلات داخلية إسرائيلية تُفضي إلى إقصاء نتنياهو واليمين المتطرف عن المشهد السياسي، ما يتيح لها استكمال ترتيبات وضع غزة بعد الحرب بالشراكة مع السلطة الفلسطينية "المتجددة" وبعض دول الإقليم.
إن رفض نتنياهو البنود الستة في الإنذار الموجّه من غانتس، يضع الأخير أمام تحدٍ كبير وليس أمامه خيار سوى "خَلع قفازاته" وقيادة الجمهور وتحريكه لإسقاط حكومة نتنياهو بالسرعة الممكنة، لأن تعثر خطوة غانتس تعني خسارته موقعه ومؤيديه، وقد بدأت آلة السُّم اليمينية المتطرفة تتحرك وتصوره على أنه "باع إسرائيل"، في مسعى لإحباط خطوته ونزع الشرعية عنها وعن صاحبها.
إن استقالة غانتس، إذا حدثت فعلاً، ستترك نتنياهو مع الجناح اليميني المتطرف في الحكومة، وسيُترَك وزير حرب الاحتلال غالانت وحده في المعركة ضد سموتريتش وبن غفير ودافيد أمسالم وآخرين غاضبين من "الجيش" الإسرائيلي، وهم الذين لا يفوّتون فرصة مهاجمته والانقضاض على رموزه. وربما يقود هذا، مصحوباً بسقوط مزيد من الأسرى الإسرائيليين ضحايا النيران الإسرائيلية، وتعاظم الخسائر البشرية والمادية في المواجهة مع المقاومة، إلى غضب شعبي يؤثر في الرأي العام الإسرائيلي، وفي شدة الاحتجاجات التي ستتعاظم بوجود غانتس وآيزنكوت ولابيد على رأسها، وربما تتكرر صور احتجاجات الإصلاح القضائي التي عصفت بالداخل الإسرائيلي قبل السابع من أكتوبر 2023، بما يدفع إلى تفكيك حكومة نتنياهو قبل انتهاء ولايتها.