Menu
فلسطين - غزة °-18 °-18
تردد القناة 10873 v
بنر أعلى الأخبار

صبحة ومزيونة....عودوا أيها الأبناء!!.. عيسى قراقع

صبحة ومزيونة....عودوا أيها الأبناء!!.. عيسى قراقع

  "عودوا أيها الأبناء"، شعار الحملة العسكرية المحمومة والواسعة التي يشنها الجيش الإسرائيلي في كافة محافظات الوطن بحثاً عن ثلاثة مستوطنين مفقودين، يعتقلون ويدمرون ويقتلون وينهبون وينتشرون أرضاً وسماءً ولهباً،

وتطفح السجون والمعسكرات بالصغار والنساء والنواب والمعاقين والجرحى، ولا ترى حكومة "إسرائيل" في شهوتها المسلحة امرأتين هما: مزيونة وصبحة جسراً يمتد بين بيت لحم والناصرة.

صبحة ومزيونة أمان مسنتان طوى الدهر من عمريهما الكثير، صديقتان حميمتان لمنظمة الصليب الأحمر الدولي كونهما ملزمتين بإثبات أمومتهن كل مرة تتقدمان فيها لطلب تصاريح الزيارة، وتسافران مرتين شهرياً عبر باصات الصليب الأحمر لزيارة ولديهما المحكومين بالمؤبد ناصر ومحمود وذلك منذ أكثر من 26 عاماً.

العلاقة مع الصليب الأحمر والفجر الغامض والمسافات الطويلة المدببة بالحواجز والمتراصة بالمشاق والتعب، هي علاقة الضحية بالاحتلال وجغرافيته الأمنية وقوانينه المحشوة بتفاصيل المسدسات وإرهاب الغرباء، وبذلك اللغز الذي يجعل الرحلة الطويلة إلى السجن تقنعك بثالوث التحالف بين المستوطنين والجنود ومحاكم الاحتلال.

رأيتهما تحملان أكياساً من النايلون فيها ملابس وبعض الحلوى لأولادهن، وقناني مياه لتخفيف وطأة الحر والعطش في هذه الرحلة الساخنة المكتظة بالنعاس والغضب واللا يقين والقدرات الخارقة على تحمّل نظرات تلك المجندة التي تبحث عن معدن يرن تحت ثياب الفلاحات، مستمتعة بتفتيش المنكوبات الملغومات بالحنين والذكريات والحسرات ورائحة الأسئلة.

تسأل المجندة الحاجة صبحة: هناك صوت يدق في صدرك، فأجابتها: إنه قلبي، تراجعت المجندة قليلاً وهي تهمس: يبدو قلبك سينفجر فانزعيه الآن حتى لا يمتلئ الجسد بالطريق والمكان بالذاكرة.

الأسيران محمود وناصر أبو سرور لم يفرج عنهما في الدفعة الرابعة التي كانت مقررة يوم 29-3-2014 بعد أن تنصلت "إسرائيل" من الاتفاق وتلاعبت به وفرضت شروطاً للابتزاز والمساومة، ولم يحتفل مخيم عايدة مكان سكنهما بلاجئيه وأزقته بعودتهما كبقية الأسرى، كان وجع في ليل المخيم ومفتاح قديم يخترق الخاصرة.

عودوا أيها الأبناء، اليمين "الإسرائيلي" يحتفل بجنونه، اعتقالات، تجنيد، طائرات، مخابرات، سحق، إغراق، تحطيم، ولم يعرف هذا اليمين أن مستوطنة عصيون، حيث فقد المستوطنون الثلاثة أقيمت على أراضي الخضر وبيت فجار وبيت جالا، وأن محلات رامي ليفي أقيمت مكان دوالي العنب والفقوس الفلسطيني وأعشاش الطيور.

لم يعرف صناع الكيبوتسات والمستوطنات غير الشرعية ورجال الكارثة أن مزيونة وصبحة عاشتا طويلاً على القمح والزعتر والزيت، ومشتا كثيراً على هذا الطريق: هناك بئر وتفاحة، وقميص مبقع بالدم والتوت.

وتقول مزيونة وهي تتابع اقتحام الجنود للمنازل ومطاردة الأولاد بعد منتصف الليل: لهم أبناء ولنا أبناء، لهم أشواق ولنا أشواق، يخافون ونخاف، يموتون ونموت، ولكنهم لم يموتوا أكثر منا، ولم ينتظروا ثلاثين عاماً حتى يعود الولد من السجن شبحاً في الحياة أو جثة في السماء.

عودوا أيها الأبناء لتروا أبراجاً عسكرية تقف فوق نومنا، ورصاصاً يفجّر النوافذ، وتروا مستوطنين يعربدون ويلعنون الشجر والقهوة والتراب الأحمر والمشمش البلدي وكل ما يدل علينا، عودوا من سجون هداريم وعسقلان ونفحة مكتملين قليلاً ملحاً وماءً وهواءً حتى تشيعوا أمهاتكم بالورد والبكاء والحناء إن كان في ذلك من عزاء.

عودوا أيها الأبناء، أيها المخطوفون في عتمة حديدية، المدعوسون بالبساطير والمحشورون في ألف زنزانة ومعسكر تمتد من النقب حتى شاطئ تل أبيب، واستمعوا إلى ذلك الحاخام الذي يطالب بإعدامكم، وذلك الضابط الذي يتسلى باستدراج أطفال الحجارة لقنصهم، وذلك الجندي الذي يفتش غرفة النوم وعلب البهارات وصفحات الكتب ويطلق النار على الكلمات والفجر.

عودوا أيها الأبناء، أجساد المضربين الإداريين تذوب في الملح والماء والقيد المربوط برائحة الموت، ولا زالت نصوص اتفاقيات جنيف الرابعة ساكنة، وقد يحركها جوعكم الطويل ونزيفكم وذاكرتكم المشتعلة.

عودوا أيها الأبناء هو صوت صبحة ومزيونة بعد أن رفضت سلطات الاحتلال إعطاءهما تصريحي زيارة معلنة أنها ستطبق قوانين شاليط على الأسرى، لا زيارات، لا صحف، لا كنتين، لا محامين، لا ماء، لا هواء، لا دواء، لا محكمة ولا لائحة اتهام، لا قانون، لا يوجد سوى المؤبد والهستيريا المسلحة والقيود والنسيان.

وتقولان: لقد اختطفوا ضرار أبو سيسي من أوكرانيا وعبد الكريم عبيد ومصطفى ديراني من لبنان، واختطفوا أطفالاً قاصرين بعد منتصف الليل ولم تثر أي ضجة من العالم على هذه القرصنة الدولية، وصرخت مزيونة بحدة: واغتصبوا الشيخ مصطفى ديراني في التحقيق واعتقلوه رهائن سنوات طويلة، لماذا لم يكتب أحد عن الفضيحة والجريمة، بكت مزيونة وهي تنظر إلى جثمان ميسرة أبو حمدية يعود من السجن صامتاً مشبعاً بالاستغاثة والسرطان والمنفى.

عودوا أيها الأبناء، فاليوم العالمي لمساندة ضحايا التعذيب يحترق في حزيران كل عام، وجثمان الأسير عرفات جرادات مسجى أمام صمت محكمة العدل الدولية، لازال القاضي يفتش عن أسباب الموت، بينما القاتل يتوارى خلف الظلام.

عودوا أيها الأبناء، حكاية مزيونة وصبحة، امرأتان من بقايا النكبة وكرت الإعاشة، الأولى: لا زالت تمشي وتنقح اللغة في المكان الضيق والرواية، أما الثانية فقد أصيبت بجلطة دماغية وسكتت تبحلق بعينيها إلى ذلك الحلم.

 

عودوا أيها الأبناء:

لا وقت أمامي

لا وقت ورائي

حلمي يجلس على ركبتي

ابن إرادتي

يفيض بحليب السحاب