سامر العريفه
يقول الكاتب والروائي فريدريك دوغلاس في روايته "مذكرات عبد أمريكي": "أدركت أنه كي تصنع عبداً قانعاً فمن الضروري أن تصنع عبداً لا يفكر، من الضروري أن تغرق رؤيته العقلية والأخلاقية في الظلام، وبقدر إعدام قوة العقل لن يكون قادراً على اكتشاف أي عيوب في نظام العبودية بل سيشعر بالعبودية وضعاً صحيحاً وسيتوقف عن أن يكون إنساناً"!!
ثلاثة عقود من الوهم على توقيع اتفاق الحكم الذاتي الانتقالي، فيما عملية التسوية تراوح مكانها، حتى أن المتتبع للحالة الجيوسياسية يجد أن ما تم الاتفاق عليه قد تآكل على الأرض، فالاستيطان قضم الضفة الغربية فاستحالت كانتونات مبعثرةً، فيما يواصل الاحتلال حملة الملاحقة والمصادرة والهدم والتهويد والتزوير وتغيير معالم المدن، والقرى الفلسطينية ولاسيما في القدس المحتلة.
أما سياسياً فالخارطة الموهومة التي تم الاتفاق عليها مزقها الاحتلال، وفي محاولة جديدة للإجهاز على ما تبقى من القضية الفلسطينية يواصل البيت الأبيض العمل على تمرير اتفاقات أو تفاهمات بديلة، يضمن من خلالها إنهاء الملفات العالقة لصالح "تل أبيب"، وجعل "التطبيع" نهج المرحلة المقبلة وبوابة كيان الاحتلال للعواصم العربية والإسلامية، وكل ذلك عبر "تسويق الوهم" وتعطيل العقول، رغم أنه ما يجري حتى بدون أي مكاسب تذكر لأنظمة الاستبداد الرسمي سوى الحفاظ على مكاسب سلطوية ومادية آنية!..
إن ما اصطلح عليه بـ"اتفاقات السلام" بين دول عربية مهزومة ومأزومة على المستوى الداخلي وتسعى للحفاظ على عروشها ومصالح أربابها، ما هو إلا مخطط لخلق "نظام إقليمي جديد" تنخرط فيه الدول المطبعة مع كيان الاحتلال في "حلف" واحد، ولاسيما الإمارات والبحرين والسودان ولاحقاً السعودية وغيرها من الدول، في ظل الكشف مؤخراً عن حوارات سعودية إسرائيلية من تحت الطاولة ما لبثت أن ظهرت مؤخراً للعلن! وتلك الدول يراد لها لعب دور إقليمي مكمّل لما تقوم به وما قامت به أصلاً ضمن "دبلوماسية التخريب"، في الوطن العربي كما حصل في سوريا والعراق وليبيا واليمن وغيرها من الدول، وجعل موطئ قدم لكيان الاحتلال بكل أطماعه في باب المندب وسقطرى وبحر عمان وبحر العرب ومضيق هرمز، والخليج العربي ككل، وبوابة على السودان، وتسعى "إسرائيل" من وراء ذلك بالطبع إلى تحقيق عدة أهداف، منها ما هو أساسي ومنها ما هو ثانوي أو مكمّل للأهداف الأساسية التوسعية الاستعمارية، فمن مخططات لاستجرار النفط الخليجي وبأرخص الأسعار بديلاً عن الاستيراد من الخارج، وصولاً إلى فتح أسواق الخليج أمام البضائع والمنتجات الإسرائيلية، والمعروف أن هذه الأسواق هي ذات نمط استهلاكي متسارع وتحجز للرفاهية مكاناً متقدماً، لاسيما فيما يتعلق بالتكنولوجيا، حيث يعتبر كيان الاحتلال متفوقاً في هذا الجانب.
إن المتتبع لسير الأحداث الجارية في الوطن العربي يدرك حقيقة الوهن والتراجع الذي وصلت إليه العواصم العربية، لاسيما فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية وحالة التخلي الواضحة، والتي وصلت بالبعض منهم حدّ التآمر السرّي والعلني، والتماهي بشكل كامل مع المشروع الأمريكي ـ الإسرائيلي!
لقد أصبحت الحدود العربية منذ تاريخ توقيع اتفاقيتي "كامب ديفيد" و"وادي عربة"، مفتوحة أمام كيان الاحتلال، وبالتالي وبالعودة إلى مرحلة "التطبيع" الحالية، فهي ليست وليدة اللحظة الآنية أو هي مرحلة في سياق جديد، بل تستعيد نفسها.
ومن هنا نقول إنه لمن المهم التأكيد على أن المسؤولية العربية والإسلامية تجاه القضية الفلسطينية لا تقتصر على جوانبها الأخلاقية والأدبية والأخوية، وإنما هي مسؤولية قانونية وسياسية بامتياز، وأي حديث عن تنمية في الوطن العربي لا يمكن أن تتحقق بوجود كيان الاحتلال ومخططاته، ولن تتحقق نهضة عربية إلا بتحرير فلسطين وكل الأراضي العربية، وكل ما هو عدا ذلك "تسويق للوهم" ومزيد من ممارسة الخداع على شعوب العالم العربي، وهو نفس العبث السياسي الذي مارسته ولاتزال السلطة الفلسطينية ومن يواصلون السير في طريق "التطبيع".
كتب أوري بارتمن الباحث في معهد القدس للاستراتيجية والأمن JISS مقالاً له في صحيفة "إسرائيل هيوم"، أكد فيه بأن: "أوسلو فشل، لكنه ساهم في تحقيق الأمن القومي الإسرائيلي"! كما تحدث عن بعض الأهداف الإسرائيلية من وراء توقيع هذا الاتفاق، سواء كونه "وسيلة للفصل بين إسرائيل والفلسطينيين سكان الضفة وغزة بهدف التغلب على التهديد الديمغرافي ومنع وضع تتحول فيه إسرائيل من دولة يهودية وديمقراطية الى دولة ثنائية القومية"، أو لجهة خلق "بيئة آمنة" تشكل أجهزة السلطة الأمنية درعاً حامياً لها، لقضم المزيد من الجغرافيا الفلسطينية، وبالطبع نقول أنه رغم التغول الإسرائيلي الاستيطاني، ولكن الاحتلال لم يتمكن من تحقيق هذا الأمن والأمان بفعل العمليات النوعية لفصائل المقاومة الفلسطينية التي تتمسك بالنضال بكل أشكاله ولاسيما الكفاح المسلح نهجاً لمقارعة الاحتلال. وفي هذا يضيف بارتمن: "درس مركزي تعلمه المجتمع اليهودي وقيادته من مسيرة أوسلو هو أنه من الأفضل لإسرائيل ألا تعتمد على الآخرين بالنسبة لأمنها".
ويختم مقاله: "كان من الأفضل لحكومة إسرائيل أن تسعى إلى تنفيذ من طرف واحد لعناصر أخرى من "خطة ترامب"، كبسط السيادة على غور الأردن والكتل الاستيطانية في الضفة الغربية". وأن "هذه الخطوات تجسّد الحلم الإسرائيلي وتعزز الامن القومي لدولة اليهود".
في قراءة موضوعية ومتأنية لمجريات الأحدات يمكننا القول وبكل جرأة وثقة إن "اتفاق أوسلو" هو أحد أهم النكبات التي لحقت بالشعب الفلسطيني وقد تكون بآثارها ليست أقل ضرراً بما لحق بالشعب الفلسطيني في نكبة العام 1948، "أوسلو" هي التي جعلت الموقف الفلسطيني هشاً، وحملت بعض النظام العربي الرسمي على التذرّع بها في سياق نهج التطبيع والتراجع.
ونشير كذلك بأن "أوسلو" هي التي ألحقت الاقتصاد الفلسطيني بالاقتصاد الإسرائيلي وجعلته تابعاً له عبر "اتفاق باريس"، وهو ما أوجد نظاماً اقتصادياً هشاً وخاضعاً لإرادة المحتل.
ومن البديهي القول هنا أصلاً قبل التعرّض لسياق تركيبة الاقتصاد الفلسطيني، عن أي دولة يتحدث أقطاب "أوسلو"، تحت الاحتلال، وبالشراكة والتعاون معه! دولة خاضعة للمنظومة الأمريكية والإسرائيلية، دولة لا تملك من أمرها شيئاً، براً وبحراً وجواً وتواصلاً جغرافياً وسكانياً، وبعيدة كل البعد عن المفهوم والسياق الطبيعي للدولة!
لقد صمّ عرابو أوسلو آذانهم عن كل صوت معارض لاتفاقية العار، حتى من داخل حركة فتح، وضربوا بعرض الحائط كل النداءات والتوصيات والقرارات حتى تلك الصادرة عن المجلسين الوطني والمركزي.
في وجه كل تلك المؤامرات نقول بأنه أمامنا فرصة كبيرة وتاريخية نحو توحيد صفوفنا، وتمتين الجبهة الداخلية الفلسطينية على الصّعد كافة، وإعادة الصراع إلى المربع الأول كشعب تحت الاحتلال يسعى لنيل حريته بكل السّبل، كما يجب العمل على إعادة استنهاض التضامن العربي والدولي مع فلسطين وشعبها، وكل ما هو عدا ذلك ضرب من السّراب، ومزيد من التراجع في سياق تسويق الوهم!