بقلم: د. وليد القططي
"وين ملاك". صرخةٌ أطلقها والد الطفلة ملاك بعدما ابتلعها البحر وغيّبها في ظلماته، عندما غرق المركب الذي كان من المفترض أن يعبر بهم إلى أرض الأحلام وموطن الآمال، فإذا به يحوّل أحلامهم إلى أوهام وآمالهم إلى آلام. وقد غرق معها ابن عمها الطفل إيهاب في المركب الذي كان يحملهما مع عائلتهما ومهاجرين آخرين من قطاع غزة قبالة شاطئ مدينة بودروم التركية في طريقهم إلى اليونان كمحطةٍ إلى وطنٍ موعود.
ملاك عبّرت عن حقها في الحلم، وقالت لجدتها قبل رحيلها عن الوطن، ثم الحياة، عندما سألتها عن سبب هجرتها: "بدي أصير دكتورة يا جدة عشان أَحكمك"، وعبّر إيهاب عن حقه في الحياة، وقال لجدته عندما سألته عن سبب هجرته: "بدنا نبعد عن الصواريخ. اللي بيهاجروا ما بيموتوش".
والدا ملاك وإيهاب وأسرتهما ومن كان معهما من المهاجرين على ظهر المركب الغريق وكل المهاجرين من قطاع غزة الذين سبقوهم ولحقوهم، خرجوا من وطنهم للبحث عن حياةٍ أفضل بعدما أصبحت الحياة في وطنهم بائسة في ظل واقع يأتيه البؤس من كل مكان.
هذا الواقع صنعه الاحتلال الذي هجّر آباءهم وأجدادهم من وطنهم، ثم حاصرهم في أقصى جنوب الوطن في البقعة المقاومة غزة، وأوغل في دمائهم، وانتزع أرواحهم، وقتل آمالهم، ودفن أحلامهم، ثم جيء لهم بسلطةٍ نصفها الغني تحت الاحتلال، ونصفها الفقير تحت الحصار، زادت واقعهم بؤساً وحالهم تعساً... فتفاقمت المشكلة الاقتصادية في قطاع غزة منذ الانقسام، كنتيجة تراكمية بدأت منذ النكبة وساهمت فيها عوامل الاحتلال والحصار، والحروب المتكررة، وعقوبات السلطة، وضيق المكان، ومحدودية الموارد، وعدم الاستقرار، وسوء الإدارة... وغيرها.
تفاقم المشكلة الاقتصادية في قطاع غزة ضحيتها الأكثر تضرراً هم أجيال الشباب الصاعدة، وخصوصاً خريجي الجامعات المتدفقين إلى سوق العمل سنوياً بعشرات الآلاف من دون فرصة عمل إلا القليل منهم، ففقدوا مع الوقت الأمل ببناء مستقبلهم داخل وطنهم في غزة التي تختصر فلسطين، فاضطروا إلى البحث عن أملٍ منشود خارج وطنهم بديلاً من أملٍ مفقود داخله، فكانت الهجرة هي الخلاص من واقعهم المأساوي، وضاعت أدراج الرياح كل النداءات التي تطالبهم بالصمود في الوطن، ولم تجدِ نفعاً كل المحاضرات التي ترشدهم إلى الرباط في بيت المقدس، والأسلوب الأكثر جدوى من النداءات والمحاضرات في إقناع الشباب بالصمود في وطنهم فلسطين والرباط في أكناف بيت المقدس، وخصوصاً شباب غزة، هو توفير فرص الحياة الكريمة لهم.
توفير فرص الحياة الكريمة للشباب الفلسطيني داخل وطنهم فلسطين يعني إيجاد فرص عمل لهم يستطيعون من خلالها بناء أسرة وإعالتها، وهذا يتطلب مشروعاً وطنياً كبيراً وشاملاً يعتمد على استراتيجية وطنية لتشغيل الشباب واستثمار طاقاتهم وإشراكهم في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وتزويد مؤسسات المجتمع المدني بالدماء الشابة، وتحقيق العدالة الاجتماعية في توزيع فرص العمل والثروة...
هذا الأمر يحتاج إلى تحقيق الوحدة الوطنية على أرضية مشروع الصمود والمقاومة والتحرير، لأنَّ تحرير فلسطين والعودة إليها هو الخلاص الحقيقي للشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية وكل فلسطين وخارجها. وإلى حين انتزاع وتحقيق النصر والتحرير، لا بد من صمود الشباب في وطنهم، لأنهم أداة النصر والتحرير.
النصر والتحرير وقوده وأداته الشباب والمهاجرون من فلسطين أو الصامدون فيها، فالمهاجرون من الشباب في مخيمات اللجوء ودول الشتات خارج فلسطين هم الذين أنشأوا منظمة التحرير الفلسطينية لتقود الحركة الوطنية الفلسطينية والنضال الوطني الفلسطيني في النصف الثاني من القرن العشرين، والصامدون من الشباب داخل فلسطين، وخصوصاً قطاع غزة هم الذين أسسوا حركتي الجهاد الإسلامي والمقاومة الإسلامية لتصبح طليعة المقاومة الوطنية الفلسطينية في النصف الثاني من عقد الثمانينيات في القرن العشرين وحتى الآن.
والشباب في فلسطين هم الذين وقعت عليهم، ولا تزال، مسؤولية المقاومة الأساسي، فقاتلوا وأُسروا واستشهدوا في حرب التحرير الشعبية المتواصلة، وحفروا الأنفاق، وقادوا المعارك، ونفذوا العمليات الفدائية، وصنعوا الصواريخ، وقصفوا مستوطنات الكيان الصهيوني من قطاع غزة، وهم الذين فجروا المدرعات، وتصدوا للاجتياحات، ونفذوا عمليات المقاومة المُسلّحة ضد "جيش" الاحتلال والمستوطنين في الضفة الغربية، وهم الذين نحتاج إلى صمودهم في فلسطين ليكونوا مُحرّكاً لعجلة الإنتاج والإبداع في كل مجالات الحياة في معركة الصمود والمقاومة قبل التحرير والعودة، وفي معركة البناء والتقدم بعد التحرير والعودة. وحتى ذلك الوقت، سيبقى جدل الهجرة والصمود موجوداً.
جدل الهجرة والصمود في فلسطين عامة، وغزة خاصة، سيبقى قائماً ما بقي الكيان والاحتلال، ولن ينتهي إلا بزوال الكيان وانتهاء الاحتلال، ليعود اللاجئون والنازحون والمُبعدون والمهجّرون إلى وطنهم وأرضهم.
وحتى ذلك الحين، يُمكننا أن نساهم في كتابة نهايات سعيدة لقصص آلاف المهاجرين والراغبين في الهجرة، أفضل من النهاية الحزينة لقصة الطفلين ملاك وإيهاب وأسرتهما وآلاف القصص المأساوية لمهاجرين آخرين، من الذين تاهوا في أوطان الغربة هرباً من غربة الوطن.
وانتهت قصصهم القصيرة نهايات حزينة، وبقيت آلاف القصص تنتظر كتابة نهايتها التي من الممكن أن تكون سعيدة إذا امتلكت قيادات الشعب الفلسطيني العزيمة والإرادة للوحدة حول مشروع وطني يضع في أولوياته إيجاد فرص عمل للشباب لتعزيز صمودهم وثباتهم في وطنهم، لكونهم عماد مشروع المقاومة والتحرير.