بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
يستكثر الإسرائيليون على الفلسطينيين فرحهم وسرورهم، ويغتاظون من بهجتهم وسعادتهم، ويشتكون من احتفالاتهم ومهرجاناتهم، ويرفضون كل معاني الفرح ومظاهر البهجة، وأشكال الزينة وألوان الإضاءة، ويطلبون من جيشهم وأجهزتهم الأمنية التنغيص على الفلسطينيين، وخنق الفرحة في صدورهم، وطمس البسمة من على شفاههم، واغتيال إرادة الحياة في قلوبهم، وإطفاء بريق الأمل في عيونهم، وتسميم عيشهم، وتكدير حياتهم، والتضييق عليهم واجتثاثهم من أرضهم، وانتزاعهم من بين أهلهم، وحرمانهم من بعضهم، لتموت في نفوسهم عقيدة الثبات وروح الاستعلاء ويقين البقاء.
ويغتاظون من الفلسطينيين في أيام أعيادهم ومناسباتهم الوطنية والدينية، فتغص قلبوهم وتضيق صدورهم وتختنق أرواحهم عند حلول شهر رمضان الفضيل، فيعلنون حكومةً ومستوطنين الاستنفار العام، ويضيقون على الفلسطينيين عيشهم، ويخنقونهم في مناطقهم بالحواجز الأمنية والمداهمات اليومية والاجتياحات المتكررة، ويزجون في مناطقهم المحاصرة بألوية جديدة وكتائب عديدة، تكون مهمتها التشديد على الفلسطينيين، ومنعهم من صلاة العشاء والتراويح في مساجدهم، أو التجمع والاحتشاد في باحاتهم وساحاتهم العامة، وإزالة اليافطات وشطب الشعارات التي تستفزهم وتثير حنقهم.
إلا أنهم يغتاظون أكثر من المساجد العامرة، وبيوت الله المأهولة، ومكبرات الصوت التي تصدح بالآذان ونداءات الله أكبر، التي تخترق الآفاق وترتفع نحو الجوزاء، وتتكرر على مسامعهم في اليوم والليلة خمس مراتٍ وأكثر، فترتعد فرائصهم عند سماعها، وترتجف قلوبهم خوفاً منها، ويشعرون وكأنها صيحات الموت يحدق بهم، ووعود الهلاك تتربص بهم، ما يجعلهم يهرعون إلى حكومتهم، ويطالبون جيشهم وأجهزتهم الأمنية، بقطع الكهرباء عن المناطق الفلسطينية، أو إجبارهم على عدم رفع الآذان عبر مكبرات الصوت، والاكتفاء به داخل المساجد، ومعاقبتهم في حال إصرارهم على رفعه، وقد أظهر المستوطنون انزعاجهم الشديد من صوت الآذان، وطالبوا الجيش ومجالس المستوطنات بالعمل على منعه، ذلك أن مستوطناتهم تقع داخل المدن والبلدات الفلسطينية، ما يجعل صوت الآذان قريباً وعالياً.
وقبل أيامٍ قليلة ظهرت نتائج امتحانات الثانوية العامة في كل المناطق الفلسطينية، فأظهر الطلاب الناجحون فرحتهم، وعبروا وأهلهم عن سعادتهم، وأطلق بعضهم الرصاص في الهواء فرحاً وابتهاجاً، رغم أن هذه الظاهرة غير مستحبة ومرفوضة، ويدينها الفلسطينيون ويستنكرونها، ويتمنون أن يتخلصوا منها وأن يدخروا الرصاصات العزيزة التي يمتلكونها لمواجهة العدو وقتاله، إلا أن المستوطنين الإسرائيليين اشتكوا إلى حكومتهم وجيشهم، أن مظاهر الاحتفالات تزعجهم، وصوت إطلاق النار يرعبهم، وتمنوا على حكومتهم لو أنها تستطيع إسكات الفلسطينيين وإخماد أصواتهم، ومنعهم من الخروج إلى الشوارع والطرقات وإطلاق العنان لأبواق سيارتهم تعبيراً عن فرحتهم وسعادتهم.
لا يريد العدو لشعبنا أن يفرح بعودة غائبيه، ولا بحرية أسراه، ويستنكر احتفاء شعبهم بهم وحسن استقبالهم لهم، ويطالب بفض التجمعات وتفكيك السرادقات والامتناع عن ترديد الشعارات والأهازيج الوطنية، ويرفض دائماً تنظيم جنائز للشهداء، وفتح بيوت العزاء بهم، ولهذا فإنه يحتجز جثامينهم ويرفض تسليمهم، إلا أن يلتزم ذووهم بدفنهم بصمتٍ وهدوء، وبمشاركة محدودةٍ من أهله وعائلته، وهو ما لا يناله أو يحققه، فالشعب الفلسطيني يصر دائماً على وداع شهدائه والعزاء بهم، وليرضى العدو أو يغضب، فهذا عهدهم مع شهدائهم ووفاؤهم معهم الذي لا يتخلون عنه ولا يفرطون فيه.
أما أكثر ما يغيظ الإسرائيليين ويقهرهم، ويضاعف غضبهم ويزيد في حنقهم، فهو ابتهاج الفلسطينيين بالعمليات العسكرية الناجحة التي تقوم بها مقاومتهم، وتنجح في قتل بعض المستوطنين وإصابتهم، وتلك التي يبدي فيها المقاومون براعةً واستبسالاً، وقوةً وشجاعةً، ويسجلون فيها ضد العدو نصراً واضحاً، يكشفون بها عيوبه ويفضحون بها عجزه، ويظهرونه مضطرباً يتخبط، وضعيفاً يتعثر.
ويغتاظون كثيراً مما لحق بهم وأصابهم، ويحاولون إخفاء نكستهم والتعتيم على خيبتهم، لكن الفلسطينيين يفضحونهم ويهتكون سرهم، ويكشفون حقيقة ما أصابهم، وينشرون الصور والمشاهد التي تكذبهم، ويخرجون إلى الشوارع والطرقات، ويتجمعون في الساحات والباحات، وينادون بمكبرات الصوت الجوالة، وتصدح المساجد بالتهليل والتكبير، ويوزعون السكاكر والحلويات على أنفسهم والمارة، ويتبادلون التهاني والمباركات، فيغضب الإسرائيليون ويجنون، ويصاب مستوطنوهم بالهستيريا والهلع، وتطالب حكومتهم السلطة الفلسطينية وبعض الحكومات العربية، بمنع الفلسطينيين من القيام بهذه المظاهر التي تزعجهم وتغيظهم، وغالباً ما تتدخل الإدارة الأمريكية لدى المسؤولين الفلسطينيين وتضغط عليهم لمحاربة هذه الظواهر والحد منها.
كثيرةٌ هي المظاهر والمشاهد التي يرفضها العدو الإسرائيلي ويغتاظ منها، ويحاول محاربتها والحد منها، ويرفع الصوت أمام المجتمع الدولي شاكياً منها ومستنكراً لها، فهو يخشى من مظاهر التيه والفخر والإشادة والتقدير التي يبديها الفلسطينيون تجاه الشهداء وكبار المقاومين، الذين ينفذون عملياتٍ نوعيةً، ويثأرون بأرواحهم لدماء إخوانهم وينتقمون لهم ممن قتلهم واعتدى عليهم، وتزعجه صورهم المرفوعة في الشوارع، وتلك التي تطغى على صفحات الفيس بوك ووسائل التواصل الاجتماعي، ويغيظهم أكثر الأسماء التي يسمي بها الفلسطينيون مواليدهم، التي تطغى عليها أسماء الشهداء وكبار المقاومين.
يعرف الفلسطينيون ما يغيظ عدوهم ويزعجه، ويعلمون ما يؤلمه ويوجعه، وما يربكه ويقلقه، وما يخيفه ويرعبه، ويعلمون أن هذه المظاهر هي أحد أشكال المقاومة، التي يحاول العدو وأدها والتخلص منها، لذا فهم يصرون عليها ويتمسكون بها، وسيواصلون العمل بها وتعمد إظهارها، فهم يؤمنون بقول الله عز وجل "قل موتوا بغيظكم"، ويوقنون بأن هذا اليوم الذي يموت فيه العدو غيظاً وكمداً سيأتي لا محالة، مهما حاول أن يؤخره بظلمه وعدوانه، وبطشه وإرهابه، فهذا الشعب الذي يقبض على الجمر والواثق بالنصر سيبقى يفرح ويبتهج، ويشيد بالمقاومة ويحتفي بالأبطال، ويستبشر بالغد ويترقب الوعد.