بقلم / د. وليد القططي
أرسلت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين رسالة تهنئة إلى الكيان الصهيوني مُسجلة عبر "تويتر" في ذكرى مرور 75 عاماً على نشأته. ومما جاء فيها: "إن إسرائيل هي الديمقراطية النابضة بالحياة في قلب الشرق الأوسط. وقد جعلت الصحراء تزدهر".
وتحدثت رسالة التهنئة المكتوبة باللغة العبرية عن "المأساة اليهودية والوطن القومي وأرض الميعاد"، وأشادت بالقيم الموحدة والثقافة المشتركة و"الحضارة الراقية" التي تجمع أوروبا و"إسرائيل"، وختمت بقولها لرئيس الكيان الصهيوني ومستوطنيه: "يوم استقلال سعيد".
الرسالة التي تزخر بالمغالطات النابعة من تبني الرواية الصهيونية والإسرائيلية للصراع بالكامل وتجاهل الرواية العربية والفلسطينية بالكامل، لا يمكن مناقشتها كلها في هذا المقال الذي يتناول رواية واحدة مضمونها أن فلسطين كانت صحراء خالية من البشر والشجر عمّرها المستوطنون اليهود الصهاينة، كما جاء في رسالة فون دير لاين عن "إسرائيل" التي "جعلت الصحراء تزدهر".
الرواية الصهيونية التي تبنتها رئيسة المفوضية الأوروبية عن فلسطين الصحراء التي عمّرها "الرواد المتحضرون" الآتون من "أوروبا المتحضرة"، جزء من أساطير خداع وسرديات مُضللة كثيرة روجت لها الحركة الصهيونية ودمجتها أوروبا في منظومتها الفكرية الاستعمارية، وفي مركزها فكرة "فلسطين الصحراء" ذات الجذور الاستعمارية الأوروبية.
أوروبا تنظر إلى العالم خارج القارة البيضاء وامتداداتها البشرية الاستعمارية بوصفه صحراء قاحلة أو غابة مُظلمة، وهو ما أكده في الأمس القريب جوزيب بوريل، ممثل الاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية، بقوله: "إن أوروبا عبارة عن حديقة... لكن بقية العالم ليست حديقة تماماً... أغلب بقية العالم هو غابة".
الاستثناء الذي تركه جوزيب بوريل خارج الغالبية التي تحدث عنها هو المستعمرات التي بنتها أوروبا خارج القارة البيضاء بالغزو والدم والتهجير والإبادة، وأهمها: الولايات المتحدة الأميركية، وكندا، وأستراليا، وجنوب أفريقيا سابقاً، وروديسيا سابقاً، و"إسرائيل" حالياً.
ترى أوروبا نفسها وامتداداتها الاستعمارية مركز العالم ومنبع الحضارة وحديقة الأرض، فيما بقية العالم هامش مُتخلف ما بين صحراء قاحلة وغابة مظلمة، عليه أن يتبع المركز، ويخضع للحضارة، ويسمح لأصحاب الحديقة بأن يحولوا الصحراء إلى جنة مزدهرة، ويحولوا الغابة إلى بستان جميل.
الصحراء في المفهوم الاستعماري الغربي والصهيوني تعني أن فلسطين عندما غزاها الصهاينة كانت خالية من البشر والشجر، وهذا ما تم تأكيده في الرواية الصهيونية القائمة على أكذوبتين، الأولى أن "فلسطين أرض صحراء بلا شعب"، فالصحراء تكون خالية من السكان، وإنْ وجدوا فهم جموع بشرية أو شبه بشرية من الرحالة غير المتحضرين وغير المنتجين، الذين يحتاجون إلى من يروضهم حضارياً أو يُعيد تأهيلهم إنسانياً ليجعلهم خدماً للجنس الأوروبي الأبيض ومشروعه الاستعماري، وإن أبوا ذلك فالتهجير أو الإبادة مصيرهم، وهذا ما حدث مع كل شعوب البلاد التي غزاها واستوطنها الأوروبيون من أميركا الشمالية غرباً، إلى أستراليا شرقاً، مروراً بفلسطين في وسط العالم.
هذه الرواية ما انفك قادة الكيان الصهيوني يرددونها، ومنهم غولدا مائير، التي نفت وجود الشعب الفلسطيني بقولها: "ليس هناك شعب فلسطيني، ولم يكن الأمر أننا جئنا وأخرجناهم من ديارهم واغتصبنا أرضهم، فلا وجود لهم أصلاً".
الأكذوبة الثانية للرواية الصهيونية هي أن "فلسطين أرض صحراء بلا شجر"، فالصحراء تكون خالية من الشجر، إضافة إلى خلوها من البشر، وإن وُجد الشجر، فهي أحراج نباتية أو شبه نباتية من الأشجار المتناثرة غير المثمرة وغير المنتجة، حوّلها المستوطنون اليهود الصهاينة الآتون من أوروبا إلى حديقة مزدهرة ملأى بالأشجار المُثمرة والنباتات المُنتجة، بعدما استصلحوا الأرض البور والصحراء القاحلة والأحراج المتناثرة بعلمهم وجهدهم وإبداعهم، بحسب الرواية الصهيونية.
هذه الرواية تتجاهل الحياة النباتية المزدهرة في فلسطين قبل النكبة، وتستغل مشاريع التشجير الإسرائيلية، وخصوصاً في النقب، كمدخل لنزع ملكيتها من فلسطينيي النقب، وذلك ضمن جزء من مشروع استيطان النقب وفلسطين، وهي الرواية نفسها التي روّج لها الغزاة الأوروبيون في كل البلاد التي استوطنوها فيما سموه العالم الجديد.
التطابق بين الروايتين الاستعماريتين -الأوروبية والصهيونية- وتبني رئيسة المفوضية الأوروبية الرواية الصهيونية في أكذوبة الصحراء التي ازدهرت يعودان إلى حقيقة أن "إسرائيل" أُنشئت كمستعمرة في إطار المشروع الاستعماري الغربي الأوروبي الذي خرج من رحمه المشروع الاستعماري الصهيوني، بناءً على خلفية مسيحية بروتستانتية تربط عودة المسيح المنتظر وبدء الألفية المسيحية السعيدة بإقامة دولة لليهود في فلسطين وبناء الهيكل الثالث وحدوث معركة "هارمجدون".
يأتي ذلك بناء على خلفية وظيفية استعمارية، لتكون "الدولة" اليهودية كياناً وظيفياً يضمن إبقاء حالة الهيمنة الغربية على المنطقة العربية والإسلامية، ويُكرس حالة التبعية والإلحاق العربية والإسلامية للمشروع الاستعماري الغربي، ويُعوق مشاريع الوحدة والنهضة والاستقلال بين الدول العربية والإسلامية وداخلها، ويجعل الكيان الصهيوني رأس حربة المشروع الغربي ضد الأمة، وهذا ما قاله مؤسس الحركة الصهيونية ثيودور هيرتزل في كتابه "الدولة اليهودية" عام 1896، مُحدداً وظيفة "دولته": "سوف تُشكل سوراً لأوروبا في وجه آسيا. سوف نكون المدافعين عن الثقافة والحضارة ضد المتوحشين".
هكذا، يتضح أن الموقف الغربي في قضية فلسطين ينبع من مركزية الكيان الصهيوني في سياسة الغرب ومنظومته الفكرية وثقافته الاستعمارية، وخصوصاً الدول الراعية للكيان، ابتداءً من بريطانيا، وانتهاءً بأميركا، مروراً بفرنسا وألمانيا.
هذه الرعاية هي الضامن لوجوده وأمنه واستمراراه وتفوقه، ما يتطلب أن تكون قضية فلسطين هي القضية المركزية للأمة العربية والإسلامية، بحيث ترتبط ارتباطاً مصيرياً بكل قضايا العرب والمسلمين، لأن العرب والمسلمين لن يتحرروا من واقع التخلف والتبعية والتجزئة وكل مشكلاتهم ما لم تتحرر فلسطين.
إن تغيير حال الأمة وتحرير فلسطين أمران متكاملان، فنهضة الأمة واستقلالها وتوحدها هو طريق تحرير فلسطين، والعمل على تحرير فلسطين هو السبيل لتحرير الأمة من التخلف والتبعية والتجزئة.
حينئذٍ، ستنتهي أكذوبة "الصحراء التي ازدهرت" أو فلسطين الخالية من البشر والشجر و"إسرائيل" المزدهرة بالبشر والشجر، لتحل مكانها حقيقة خراب كيان العلو والإفساد الإسرائيلي بأيديهم وأيدي المؤمنين، كما قال تعالى عن طبعهم المتكرر: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ}، وهي الحقيقة نفسها التي ستؤدي إلى خراب "الهيكل الثالث" المزعوم أسوةً بالهيكلين الأول والثاني، ولتحل مكانها كذلك حقيقة عمار فلسطين بالبشر والشجر بعد تحقق وعد الآخرة الذي سيؤدي إلى تحرير فلسطين من الاحتلال وعودة شعبها من الشتات وتوحد الأمة ضد الكيان الصهيوني وحلفائه ضد المشروع الاستعماري الغربي وطليعتها في محور المقاومة.