إبراهيم أبو صفية
يختزل الكثير من الكتاب والمفكرين والمؤرخين، قصص الثوار في منطقة الوسط والساحل والشمال، وإذا تحدثوا عن الجنوب خصصوه بالحديث عن قطاع غزة، غير ملفتين لتاريخ المقاومة والثوار في قضاء بئر السبع والنقب، أي أنهم يبتعدون حتى في كتاباتهم عن حر الصحراء، إلا أن الصحراء كانت يوما لهيبا مشتعلا تحت أقدام الإنجليز، ورياحا تلطم الرمال بوجوههم.
يقول الكاتب خالد عودة الله، "كيف يمكن لمعرفتنا وتصوُّرنا لفلسطين، أن يختلفا إذا نظرنا إلى فلسطين بصرياً ومعرفياً من جهة الجنوب من بئر السبع؟ إنّه سؤالٌ مربكٌ ومستفزٌّ لصورة فلسطين في الذهن المركبة بكثافةٍ في الوسط والشمال، من القدس إلى الجليل، والفقيرة بالمحتوى الجنوبي! في لحظاتٍ كثيرةٍ أثناء التجوال في بئر السبع، والسفر في أسفار تاريخه، كنت أصل إلى قناعة بأن خارطة فلسطين في أذهاننا مقلوبة!
وينطبق الشيء ذاته على صورة النكبة في ذاكرتنا الجمعية، والتي تتكثّف حول معركة القسطل ودير ياسين وسقوط مدن الساحل، وتغيب عنها ( الذاكرة الجمعية) بئر السبع تماماً.
هنا لا بد من نبش هذه المنطقة، والتنقيب عن ثوارها ومقاومتها الباسلة للمشروع الاستعماري الانجليزي و الصهيوني، بل ونعيد رسم صورة فلسطين في أذهاننا، وخصوصا أن المقاومة اليوم أعادت هذه الصورة، باستهدافها المتكرر لمنطقة بئر السبع وعسقلان، وكأنها تضع الإشارة ربما هنا يكون مقتل المشروع الصهيوني.
في منتصف العشرينيات من القرن الماضي، هبت رياح ثورية عصفت بمواقع ومعسكرات الإنجليز، كما واستهدفت بداية "كيبوتسات" الإسرائيليين، الذين بدأوا بمشروعهم الاستيطاني بها، عرف فيما بعد أن قائد هذه الهجمات هو الفلسطيني الثائر عيد سليمان عيد الصانع.
هبوب الريح
هذه الشخصية الثائرة التي استطاعت أن تزعزع استقرار الإنجليز في الجنوب وصولا للبتراء في الأردن، وكان عيد الصانع الذي أُطلق عليه لقب "هبوب الريح" قد شكل وأسس مجموعة ثورية من أبناء القبائل هدفها مقاومة الاستعمار الإنجليزي في منطقة بئر السبع فقاموا بعمل الكمائن للانجليز والانقضاض عليهم في جميع ثكناتهم ومواقعهم العسكرية وتكبيدهم الخسائر في الأرواح والعتاد ثم الاختفاء بسرعة البرق، لذلك سمي هبوب الريح؛ لسرعة اختفائه، وبقي عيد الصانع شوكة في حلق الإنجليز لمدة عشر سنوات وحتى لحظة استشهاده.
كان عيد الصانع "هبوب الريح" أسيرا لدى الإنجليز، بعد أن ألقوا عليه القبض خلال جمعه مخلفات أسلحة الجيش العثماني والتي خبأها في النقب ليحارب المستمعر الأصفر بها، إلا أنه لم يطق حياة السجن، فقام بالهروب والتخفي، وصار مطاردا يقوم بعمليات ضد الجيش الإنجليزي، وكانت عملياته سريعة التنفيذ، فكان في كل مرة تخرج فرقة الاستطلاع التابعة لجيش بريطانيا العظمى، لمعرفة من قام بالهجوم فلا يجدون أحد، فيوبخهم القائد الإنجليزي كيف لم تجدوا أحد، تكررت هذه العمليات عدة مرات ومرات، و يعود العناصر في كل مرة إلى قائدهم وقبل أن يقولوا له شيئا يشاهد على وجوههم الخيبة، فيقول: لهم آه أكيد هبوب الريح.
جسد التلفزيون الأردني شخصية عيد الصانع، بمسلسل مكون من 15 حلقة بإسم "هبوب الريح" تناول فيه، بداية ثورته وغالبية الكمائن التي استهدفت مقرات الإنجليز وهاجمت "كيبوتسات" الصهاينة، حيث يدور الحديث آنذاك عن أهمية ضرب هذه " الكيبوتسات" والقضاء على المشروع الصهيوني في رحمه قبل ولادته، فكان من نصيب مجموعة هبوب الريح مقاومتها، بل يوضح المسلسل عن كيفية تذمر اليهود من العيش تحت ضربات عيد الصانع، وأنهم يعيشون في رحمته، ويطالبون الإنجليز بالحماية كونهم أقروا وعد بلفور.
وفي عقب الهجمات التي كان يقوم بها "هبوب الريح" تزداد حدة انتقام الإنجليز من القبائل التي تسكن في تلك المنطقة، كي يشكلوا ضغطا على هبوب الريح ليستسلم، أو يوقف هجماته، إلا أن القبائل كانت تبارك فعله، وتدعمه بشكل غير مباشر خوفا على أنفسهم من سطوة الإنجليز، في إحدى المرات أقدمت قوات الإنجليز واجتاحت خيم إحدى القبائل، واعتدت على نسائها، فخرجت إحدى النسوة هاربة للصحراء، يعلو صوتها، "يا رياح بلغي هبوب الريح ما فعل الانجليز بنا"، حتى يصل الخبر إلى الثائر عيد الصانع، فينتقم ويثأر لهم.
فكانت معارك "هبوب الريح" كر وفر، حتى يقال أنه لم يوجد موقع أو معسكر إنجليزي في جنوب فلسطين، إلا واستهدفت مجموعة عيد الصانع عساكره، بل وكانت تكمن لعرباتهم وامدادتهم العسكرية وقطعها.
أشهر عملياته:- قاعدة الطيران في عوجا الحفير
يقول الباحث إسماعيل بن عياد الترباني، بعد أن احتل الإنجليز جنوب فلسطين وخصوصا منطقة بئر السبع، أوصى اللورد بلومر- المفوض السامي البريطاني في فلسطين- بإعادة إعمار عوجا الحفير، ضمن مخطط مستقبلي لإنشاء ميناء بري-بحري يربط ما بين غزة (أو حيفا) والعقبة كممرٍ بديلٍ عن قناة السويس(يبدو أن قناة السويس لعنة فلسطين الدائمة).
أما ما جرى "إعماره" فعلاً في العوجا فكان مخفراً للشرطة ومطاراً وسجناً. كما أقام الإنجليز مطاراً عسكرياً صغيراً في العام 1925، واُستخدم للاستطلاع الجوي، ومراقبة تحركات القبائل البدوية عبر الحدود وأعمال "حفظ الأمن". إلا أن مجموعة عيد الصانع، لم يرق لها هذا المخطط، فقام "هبوب الريح" ورفاقه بمهاجمة قاعدة الطيران في عوجا الحفير، واشتبكوا مع جند الحراسة، ودامت المعركة لساعاتٍ استطاعوا على إثرها الحصولَ على غنائم من الإبل المحملة بالأسلحة، التي فرَّ أصحابها من ميدان المعركة، وذلك قبل أن تُفرِغ حمولتها، والتي كان مصدرها ثكنات الجيش البريطاني في سيناء".
وقال الشاعر محمود نديم الأفغاني عن هذه المعركة:
" عوجا الحفير تحية من معشر هبطوا بوادك ثائرين كباراً
عقدوا اليمين بأنهم لن ينثَنوا عن حقهم أو يصبحوا آثاراً".
"الله يبليك ضربة من ضربات هبوب الريح"
من كثرة ما كانت ضربات هبوب الريح موجعة ومركزة، وتحقق الهدف من ورائها، تداول أهل القبائل دعاء يدعون به على أعدائهم، ففي إحدى الاقتحامات التي شنها الإنجليز على خيم القبائل، تطاول قائد فرقة الإنجليز على إحدى النساء، فبصقت في وجهه ودعت عليه قائلة " الله يبليك ضربة من ضربات هبوب الريح"، فكان هذا الضابط مقتولا بدعائها بعد أن انتقمت مجموعة عيد الصانع لتلك المرأة وتلك القبيلة.
تميز عيد الصانع بمهارته بالقنص والتخفي ونصب الكمائن، وسرعته الفائقة بالهجوم والانسحاب قبل قدوم النجدات، فأنه كما وصف الشهيد باسل الأعرج "عاش نيصا وقاتل كالبرغوث"، كون أن النيص حيوان ليلي، يعيش تحت الأرض داخل جحر، وله عدة مداخل ومخارج وأنفاق طويلة جداً، وعلى طول الأنفاق هناك ما يشبه استراحات. ويستخدم النيص في تنقّله ودخوله وخروجه عدة طرق محدّدة ومعيّنة، وتبدو كأنها مدروسة، ويملك نوعاً غريباً من البارانويا، أو ما نسمّيه فلسطينياً بالحس الأمني".
ولا بد للصياد أن "يتأقلم مع نمط حياة وسلوكيات طريدته ليستطيع اصطياده، لكن ما حدث أن الفلسطيني تطبّع تماماً بأطباع النّيص، خصوصاً وقت الخطر، فكان أن أصبح نيصاً في عيشه".
شن عيد الصانع حرب عصابات في جنوب فلسطين على قوات الانجليز، بل وعمل على تأمين ونقل السلاح للثوار في منطقة الوسط والساحل والشمال، فبعد أن علمت حكومة الانتداب عن كثرة عملياته، رصدت مكافأة قدرها 250 جنيها فلسطينيا لمن يشير عن مكانه.
ولد عيد سليمان عيد الصانع (الملقب بهبوب الريح) عام 1892م في قرية العمارة قضاء بئر السبع، وهو من أبناء قبيلة الترابين من أكبر قبائل بادية الشام ومصر، واستشهد بتاريخ 24/10/1935 بعد معركه ضارية خاضها مع مجموعة كبيرة من الإنجليز بعد محاصرته ورفاقه المقاتلين ورفض الاستسلام، فأحكموا عليه الطوق واستمر يقاوم ومن معه حتى نفذت الذخيرة.