قد يتساءلُ الكثيرون من الفلسطينيين وغيرهم: إلى متى يا ترى تستمرُّ هذه الحروب الإباديّة الصهيونيّة ضدّ الفلسطينيين نساءً وأطفالًا وشبّانًا وشيبًا؟! وإلى متى نتابعُ هذا المشهد الفلسطينيّ المتخم بالمجازر والشهداء والجرحى والمعتقلين، وكذلك بالجرّافات الصهيونيّة التي لا تتوقّف عن أعمال الهدم والتجريف؟! إلى متى تستمرُّ المشاهد الفلسطينيّة المروعة؟! وما الهدف الصهيوني الحقيقي وراء كلّ ذلك؟!
يعترفُ "أورن يفتحئيل" أستاذ الجغرافيا السياسيّة في جامعة بن غوريون، أنّ "مشاهد القتل والدمار ضدّ الفلسطينيين فظيعة"، وأنّ "هذه الحروب استمرارٌ للمشروع والسلوك الإقليميّ الإسرائيليّ الذي تبنّى هدفًا متشدّدًا ووحشيًّا يتمثّلُ في إسكات الزمن الفلسطيني"، أي محو التاريخ الكامل لهذه البلاد، وإسكات التاريخ يشكّل أيضًا محوًا للمكان الفلسطيني، ومعه الحقوق السياسية الكاملة القائمة بمشروعيتها، وليس منّةً من إسرائيل، ويضيف "إنّ الحرب الإسرائيلية على غزة -مثلًا- ليست فقط عمليّةً لوقف الصواريخ، أو تلميعًا لشخصيّاتٍ للانتخابات، أو محاولةً لترميم الردع، وليست مسعى إمبرياليًّا (إسرائيليًّا-أميركيًّا) للسيطرة، وإنّما هي كلّ هذه الأمور مجتمعةً، وكذلك أيضًا هي استمرارٌ لاستراتيجيّةٍ مديدة السنوات من إنكارٍ ومحوٍ وشطبٍ لأي ذكرٍ لتاريخ هذا المكان في العصور الأخيرة، ومشروع المحو هذا ينخرط فيه الجميع تقريبًا: السياسيّون والفنانون ووسائل الإعلام والباحثون في الجامعات والمثقّفون الإسرائيليّون"، وعجوز السياسة الإسرائيليّة شمعون بيريز أحد رواد الاستيطان والبرنامج النووي الإسرائيليّ لم يتوقّف عن تكرار مقولة غولدا مائير إنّه "لم يكن هناك شعب فلسطيني في الـ 67".
على هذه الخلفيّة - الأرضية الاستراتيجية الصهيونية، فجّر الوزير الصهيوني العنصري سموترتش قنبلة من العيار الثقيل حينما أعلن من باريس "أنّه لا يوجد شعبٌ اسمه الشعب الفلسطينيّ"، زاعمًا "أنّ ما يُطلَق عليه الشعب الفلسطينيّ هو بمثابة بدعةٍ اخترعها العرب لمحاربة الحركة الصهيونيّة"، مضيفًا: "أنّ الشعب الفلسطيني هو اختراعٌ من القرن الماضي، وأنّ الناس مثله وأجداده هم الفلسطينيون الحقيقيون - عن وكالات 2023-3-20". وقد فتح سموترتش بهذا التصريح العنصري الفاشي ملف الصهيونية الفاشية العنصرية بكامله منذ ما قبل النكبة وحتى اليوم، فالزعماء والحاخامات الصهاينة كافةً ينامون ويستيقظون على حلم "اختفاء الشعب الفلسطيني"...!
وتقفُ وراءَ هذا الحلم الصهيونيّ خلفيّاتٌ أيديولوجيّةٌ وسياسيّةٌ واستراتيجيّةٌ صهيونيّة، تعدُّ أن "إسرائيل لن تكتمل سيطرتها وسيادتها على فلسطين طالما بقي الشعب الفلسطيني، وأنّه ليس هناك أي مستقبل آمن لإسرائيل طالما بقي الفلسطينيون هناك كالشوك في حلوقهم"، وفي ذلك هناك الكثير الكثير من الأدبيات والفتاوى التي تسمح لهم باستباحة الدم الفلسطيني العربي. وهذه الخلفيّات تسري على قياداتهم جميعها السياسيّة والدينيّة والعسكريّة والأكاديميّة والإعلاميّة وغيرها، ابتداءً من هرتسل، مرورًا ببن غوريون وغولدا مئير التي أنكرت وجود الشعب الفلسطيني، ومرورًا بشامير ورابين وبيرس وكبار الحاخامات، وصولًا إلى نتنياهو وبن غفير وسموترتش... هذه هي حقيقة الكيان منذ نشأته، وستستمر هذه النزعة العنصرية الفاشية الإبادية الإلغائية حتى زوال الكيان.
ومن سجل أدبيّاتهم الإلغائيّة الإرهابيّة في هذا السياق كان أطلّ علينا الزعيم الروحي لحزب "شاس" الإسرائيلي الحاخام الأكبر عوفاديا يوسف؛ ليعرب عن أمله وأمنيته في "أن يختفي الذين يكرهون إسرائيل، مثل الفلسطينيين من العالم"، مضيفًا في تصريحاتٍ بثّتها إذاعة الجيش الإسرائيلي "ليختفي كل هؤلاء الأشرار الذين يكرهون إسرائيل، مثل الفلسطينيين، عن وجه الأرض وليضربهم الطاعون"، واللافت أن الحاخام الأكبر استخدم عباراتٍ في التلمود، ليعبّر عن أمله في أن يختفي أعداء إسرائيل لمصلحة السلام، كما قال نسيم زئيف النائب عن حزب شاس في الكنيست.
إلى ذلك، تجدر الإشارة إلى أن الحاخام يوسف كان قد هاجم العرب في أكثرَ من مرة، ووصفهم بأنّهم "حمقى وأغبياء ودينهم مقرف مثلهم". وقال "إن العرب صراصير يجب قتلهم وإبادتهم جميعًا"، ووصفهم بأنهم "أسوأ من الأفاعي السامة"، ودعا الحاخام اليهودي إلى "إبادة العرب بالصواريخ" وتمنى "محوهم عن وجه البسيطة"، ففي آب/ أغسطس2004 قال في خطبة له إن "قتل العرب مثل قتل الدودة أو الثعبان". وقد فتح لنا الحاخام يوسف هنا ملف فتاوى التكفير والإرهاب الصهيونية منذ نشأة الحركة الصهيونية قبل أكثر من قرنٍ ونيّف من الزمن، ويفتح لنا ملف الأيديولوجيا الإباديّة الصهيونيّة التي تنادي بذبح الفلسطينيين والعرب بالجملة دون أن يشكل ذلك أيُّ مشكلةٍ أخلاقيّةٍ أو إنسانيّةٍ لديهم. فقد كان سبقه في هذه الأمنية باختفاء الشعب الفلسطيني عددٌ لا حصر له من قياداتهم التاريخيّة، ومن مؤرّخيهم وباحثيهم، وكلّنا نذكر ما قاله جنرال تحطيم عظام أطفال الانتفاضة اسحق رابين حينما قال: أتمنى أن أستيقظ ذات يوم لأرى البحر وقد ابتلع غزة". غير أن ذروة هذا الفكر التكفيري كانت خلال ولاية بلدوزرهم شارون منذ مطلع العام 2000 وحتى إصابته بالجلطة في مطلع 2006، فقد قاد شارون حملات التدمير والحرق والإخضاع ضدّ الشعب الفلسطيني، عبر استخدام القوة والمزيد من القوة، وأقصى درجات القوة الدمويّة الإرهابيّة، وحملت حملاته ثلاثة أهداف كبيرة:
أوّلها: تدمير البنية التحتيّة الفلسطينيّة برمّتها التي قد تشكّلُ أساسًا لدولةٍ فلسطينيّةٍ مستقلّة، حسب ما كان يتوهّم البعض.
وثانيها: تركيع الشعب الفلسطينيّ وتطويعه وتسييجه في إطار أقفاصٍ يطلقُ عليها اسم كانتونات، وذلك عبر تنفيذ استراتيجيّة شارون – بيريز وبن اليعازر والآخرين المشتركة، التي تحمل خمسة عناصر رئيسيّة هي :
1- عمليّاتٌ عسكريّةٌ ضخمة، حصارٌ وإغلاقٌ وضرباتٌ عسكريّةٌ تدميريّةٌ ضدّ البنية التحتيّة الفلسطينيّة، واغتيال الشخصيّات السياسيّة ونشطاء الانتفاضة.
2-حملة استنزافٍ عسكريّ ترمي إلى إضعاف الانتفاضة الفلسطينيّة وتفكيكها مع مرور الوقت، يضافُ إليها سياسات هدم البيوت ومصادرة الأراضي والإغلاق الدائم ومنع التجوّل بعيد الأمد، والأخطار والحرب الاقتصادية بكلّ أشكالها .
3- خلق حقائق لا رجعة عنها على الأرض .
4- تجريد السلطة الفلسطينية من الشرعية .
أما ثالثها وأكبرها من وراء سياسات التدمير والحرق والمجازر والإخضاع، فكان تحقيق "حلم اختفاء الآخر العربي الفلسطيني "كما أكد البروفسور ميرون بنفنستي في صحيفة هآرتس 21/6/2001 "، وإعادة تشكيل الشعب الفلسطيني، الأمرُ الذي أكّده أيضًا البروفيسور الإسرائيلي ميرون بنفنستي حينما كتب في صحيفة هآرتس يقول: "إن شارون يرمي من وراء مخططه إلى تجنيد الجميع لأيديولوجيته الرامية إلى نزع الشرعية عن الشعب الفلسطيني وعن قيادته الشرعية".
فشارون - إذًا - كان يحلم باستبدال الشعب الفلسطيني عبر الحرب الواقية التي شنها، وكان يحلم بإعادة تشكيله وصياغته بما يتناسب مع مخططاته واشتراطاته السياسية؛ الأمر الذي أكّده أيضًا جوناتان فريد لاند في صحيفة الغارديان حينما كتب موضّحًا:" يرغب شارون في اختفاء الشعب الفلسطيني، أو إيجاد شعبٍ فلسطينيٍّ مختلفٍ حتّى لا يضطرّ للتعامل مع الشعب الحقيقي، هل يسعى رئيس الوزراء الإسرائيليّ أرئيل شارون إلى قتل الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات ؟ وهل يمكنُ أن تكون هذه هي سياسة رئيس وزراء إسرائيل، أي يقتل الرجل المشهور في العالم أجمع على أنه "سيد فلسطين" ورمز شعب كامل؟
وهكذا كان شارون يفكر ويتخيّل شعبًا فلسطينيًّا هادئًا بدلًا من التفكير في شعبٍ يتمتّع بالكبرياء والإباء، تحت قيادة زعماء مرنين ومطواعين بدلًا من قيادة رمزٍ وطنيٍّ، ولم يتحقّق حلم شارون، لكن من يدري مقدار الدم الذي سيراق قبل أن يتحقق؟".
الكاتب المعروف آفي شلايم أستاذ العلاقات الخارجية في جامعة أكسفورد وهو مؤلف كتاب "الجدار الحديدي"، كشف أجندة شارون الحقيقيّة حينما أشار إلى جملة الأهداف، والمضامين المشار إليها بعباراتٍ مكثّفة، حيث كتب في الهيرالد تريبيون يقول: "إنّ الهدف السياسي لشارون هو قتل أكبر عددٍ ممكنٍ من الفلسطينيين حتى يخضعوا" وحسب كلام شارون نفسه: "يجب ضربهم، وعلينا أن نلحق بهم خسائر فادحة..".
عدَّ الإسرائيليّون أنّ الجنرال شارون بلدوزر الأمن والإرهاب كان يشكّل الأمل الأخير لهم في إخضاع الفلسطينيين وكسر شوكتهم وإرادتهم؛ الأمرُ الذي فشل شارون في تحقيقه فشلًا ذريعًا لم يكن في حساباتهم .
ونقول أيضًا: برغم الحقيقة الكبيرة الناصعة الأولى التي لا تخضع للجدل والمتمثّلة بالرجحان الكامل لميزان القوى العسكريّة في المواجهات الفلسطينيّة – الإسرائيليّة، وما بين عهد شارون وعهد نتنياهو – سموترتش - بن غفير اليوم، الذي يعدُّ كذلك خلاصةً للفكر الإرهابيّ الصهيونيّ لكبار الساسة والجنرالات والحاخامات.
ونستخلصُ اليوم كما استخلصنا بالأمس: كما خاب شارون، وفشل في إلغاء الشعب، والمشروع الوطني الفلسطيني، وكما أخفق رابين في تحقيق حلمه الكابوسي، كذلك سيذهب حلم حاخامهم الأكبر عوباديا يوسف أدراج الرياح وإلى مزبلة التاريخ...، وسيخيب أمل العصابة الحاكمة اليوم في الكيان: نتنياهو - سموترتش - بن غفير... فالشعب الفلسطيني الذي نجح بتحطيم نظريّة شارون في الأمن والهدوء، وفي إسقاط حلمه باختفائه واختفاء مشروعه الوطني الاستقلالي، ما زال قادرًا رغم الحروب والحصارات والأطواق على قلب الحسابات وتحطيم أحلامهم وأمنياتهم، والبقاء في المشهد الصراعي إلى يوم النصر الحتمي.
المصدر: بوابة الهدف