بقلم / حسن لافي
خرجت "إسرائيل" من حرب تموز 2006 (حرب لبنان الثانية)، مقتنعة أنها في حاجة ماسة إلى عملية تغيير جوهرية، من أجل موائمة قوتها العسكرية لطبيعة التهديدات الجديدة، التي أظهرها حزب الله في تلك الحرب، وبقيت المعضلة الإسرائيلية أنها تعلم أن هذا التغيير، يحتاج إلى وقت طويل حتى يتمّ إنجازه، ومن الخطأ خلال تلك الفترة ترك حزب الله يطوّر من قوته العسكرية، والتي من الممكن أن يفاجئ "إسرائيل" بحرب جديدة لا تكون جاهزة لها، أو على الأقل فرض قواعد اشتباك غير مريحة لـ "إسرائيل".
بناء على ذلك، باتت "إسرائيل" تبحث عن إبعاد المعركة المقبلة مع حزب الله، إلى أطول فترة ممكنة، لاستكمال استعداداتها ومعالجة أخطائها من جهة، ومن جهة أخرى لا يمكن أن تسمح لنفسها، أن تقع في الخطأ السابق نفسه بعد عام 2000.
لذا فهي بحاجة إلى منع حزب الله من إعادة قدراته القتالية، إضافة إلى عرقلة تطويرها بعد حرب تموز. من هنا نبعت الحاجة الإسرائيلية إلى استراتيجية (المعركة بين الحربين) كاستراتيجية تدير "إسرائيل" من خلالها توازنات الردع الجديدة، بينها وبين حزب الله بعد الحرب.
دفعت عدة عوامل المؤسسة العسكرية والسياسية الإسرائيلية، إلى الالتزام في استراتيجية (المعركة بين الحربين) ويمكن تلخيصها في اتجاهين متكاملين:
الأول/ ما يتعلق بالوضع الاستراتيجي لـ "إسرائيل"، حيث:
1. ظهرت الحاجة الإسرائيلية الماسة، إلى أطول فترة ممكنة من الهدوء، لإعادة بناء جاهزيتها للمعركة المقبلة، على ضوء نتائج حرب تموز.
2. برز التهديد النووي الإيراني كخطر ملح، يتطلّب التركيز عليه إسرائيلياً، وقد صرّح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في12 آب/أغسطس 2012 أن "جميع التهديدات على الجبهة الداخلية تتضاءل أمام تهديد آخر، ألا هو امتلاك إيران أسلحة نووية". من ثم يمكن الاستنتاج، أن جزءاً كبيراً من موارد "إسرائيل"، تمّ توجيهه إلى هذه القضية.
3. أزمة الحالة الاقتصادية الإسرائيلية، وقد عبّرت عنها الاحتجاجات الاجتماعية، التي اندلعت عام 2011. بناء على ذلك، من الممكن فهم تصريح رئيس القسم السياسي والأمني، بوزارة الدفاع اللواء "عاموس جلعاد" في 8 حزيران/ يونيو2015 أنّ "مئة ألف صاروخ التي وجّهت ضد "إسرائيل" من الجبهة الشمالية، أحدثت تغييراً في الخطاب المجتمعي في "إسرائيل"، من خطاب عسكري أمني، إلى خطاب أكثر اهتماماً في الاقتصاد، خاصة بعد الاحتجاجات المجتمعية عام 2011".
4. قلق "إسرائيل" من التغيرات التي حدثت في الوطن العربي، على ما أطلق عليه "الربيع العربي" وانعكاساته على المنطقة، وخاصة بعد تفجّر الأزمة السورية، والتي اعتبرت "إسرائيل" أنها مستنقع من الوحل، من يدخل فيه لن يخرج أبداً. لذلك أسست تعاملها مع حزب الله على أن الأزمة السورية، معركة استنزاف شاملة لحزب الله على المستويات كافة، تبعد الحاجة الإسرائيلية للتدخل العسكري ضد حزب الله، إلا في أضيق الحدود، وضمن خطوطها الحمر.
الثاني/ ما يتعلق في وضع حزب الله الاستراتيجي في الداخل اللبناني، حيث:
1. ركّز حزب الله مجهوداته في عملية إعادة الإعمار للدمار، الذي خلّفته الحرب، وتعزيز ترسانته العسكرية وتطويرها خاصة قبل اندلاع الأزمة السورية.
2. انشغال حزب الله في الساحة السياسية اللبنانية الداخلية، التي عجت بالكثير من الأحداث، بدءاً من الانقسام الداخلي المتزايد، مروراً باتهامات تورّط عناصر من حزب الله من المحكمة الخاصة للأمم المتحدة، للتحقيق في اغتيال رئيس الوزراء السابق "رفيق الحريري".
3. اشتراك حزب الله في الأزمة السورية عام 2013، أدى إلى تأثيرات قوية، وازدياد الضغوطات السياسية على الحزب داخلياً وخارجياً.
في المحصلة النهائية اقتنع الجمهور الإسرائيلي أن شن معركة عسكرية واسعة، ضد حزب الله مغامرة غير ضرورية، يمكن تلافيها من خلال استراتيجية (المعركة بين الحربين) والتي تهدف إلى:
1. تأخير نشوب الحرب، وردع الأعداء عبر المثابرة، على إضعاف آليات تعزيز قوتهم، وإلحاق الضرر بأصولهم وقدراتهم.
2. ترسيخ شرعية ممارسة "إسرائيل" القوة مع الإضرار، في الوقت نفسه بشرعية العدو.
3. تهيئة الظروف المثلى لـ "الجيش الإسرائيلي"، إذا نشبت الحرب في النهاية.
لذلك حرصت المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، على تفعيل استراتيجية (المعركة بين الحربين) في مستويات الخطر المنخفضة، وبحسابات مدروسة بدقة كي يبقى الصراع تحت مستوى الحرب.
يعتبر تقييم "إسرائيل" للوضع الاستراتيجي العام لحزب الله، من أهم شروط إدارة المخاطر في استراتيجية (المعركة بين الحربين)، فدراسة الوضع الداخلي لحزب الله، والطريقة التي ينظر فيها المجتمع الدولي إليه، إضافة إلى مقدار الدعم الدولي الذي تحظى به "إسرائيل"، وغيرها من العوامل لها تأثير قوي، على درجات الخطورة التي من الممكن أن تستخدمها "إسرائيل" في إطار (المعركة بين الحربين).
فكلما كان حزب الله في وضع استراتيجي غير مريح، يصعب عليه دحرجة الوضع إلى حرب شاملة، وبالتالي زادت مساحة الأفعال الإسرائيلية، وتزداد مجموعة الأدوات العسكرية التي من الممكن استخدامها، والعكس صحيح.
لذلك أدركت "إسرائيل" أن انتهاكها العلني للسيادة اللبنانية، بمعنى القيام بعملية عسكرية، أو أمنية ضد أهداف حزب الله في لبنان بشكل علني، سيستوجب رداً من حزب الله، ومن الممكن أن يدحرج الأوضاع إلى حرب مفتوحة.
وبذلك تم تثبيت قواعد الاشتباك بين حزب الله و"إسرائيل"، مفادها أن الفعل الغامض من "إسرائيل" لا يقابله ردة فعل علنية من حزب الله، بل سيتم الذهاب إلى فعل أمني خارجي من دون أن يعلن حزب الله مسؤوليته عن ذلك، أما إذا كانت هناك مسؤولية معلنة من "إسرائيل"، فإن الرد من حزب الله سيكون معلناً، ومن عبر الحدود اللبنانية.
لكن مع تغيّر البيئة الاستراتيجية المحيطة بكل من حزب الله و"إسرائيل" بعد انتهاء الأزمة السورية، لغير صالح سياسة الردع الإسرائيلية، بدأت مرحلة جديدة من السعي إلى تطوير قواعد الاشتباك بين الطرفين على ضوء تلك المتغيّرات الاستراتيجية.