اندلعت "حرب لبنان الثانية" (حرب تموز) في 12 تموز/يوليو 2006، إثر عملية نفذها حزب الله على الحدود اللبنانية أسفرت عن مقتل 3 جنود وأسر جنديين إسرائيليين.
ومن الجدير بالذكر أنَّ القيادة العسكرية الإسرائيلية لم ترَ في البداية أنها تخوض حرباً مفتوحة، بل تعاملت معها على أنها عملية عسكرية "عقابية" ضد حزب الله، الأمر الذي تدلّ عليه التسمية التي أطلقها قسم العمليات في "الجيش" الإسرائيلي على تلك العملية، وهي "تغيير اتجاه". ولم تقرّ الحكومة الإسرائيلية بأن الحملة العسكرية في لبنان، من تموز/يوليو إلى آب/أغسطس 2006، هي "حرب لبنان الثانية" إلا في آذار/مارس 2007.
ركّزت الخطة الإسرائيلية الإستراتيجية في حرب تموز - على مدار 33 يوماً - على المساس بقدرة حزب الله، وقبل كل شيء تدمير نظام إطلاق الصواريخ الطويلة المدى والمتوسطة المدى، بالاعتماد على المعلومات الاستخباراتية النوعية وقدرات سلاح الجو الإسرائيلي الهجومية الدقيقة.
وقد اعتمدت "إسرائيل" في تعزيز قوة ردعها أثناء الحرب على كثافة قوة النيران من سلاح الجو في قصفها البنى التحتية اللبنانية والمناطق السكنية في بيئة حزب الله، وهو ما أطلق عليه "عقيدة الضاحية".
في المقابل، اعتمد حزب الله في قتاله على المزاوجة بين أسلوب حرب العصابات القتالي وإمكانياته العسكرية التقليدية، مستفيداً من شبكة الأنفاق والمحميات الطبيعية والكمائن التي أنشأها بعد الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان، إضافةً إلى منظومته الصاروخية، وخصوصاً القصيرة منها، ما جعله قادراً على رفع مستوى التهديد على الجبهة الداخلية الإسرائيلية التي كانت تتلقى للمرة الأولى في تاريخ "إسرائيل" هذا الكمّ من الصواريخ.
وضعت حرب تموز "إسرائيل" أمام حقيقة أنها لم تستطع على مدار 33 يوماً من القتال أن تحقّق الحسم العسكري، كما تنص عليه عقيدتها العسكرية ويتوقّعه المستوطنون من "الجيش"، وهو ما عبر عنه الجنرال المتقاعد موشيه كبلينسكي، نائب رئيس أركان "الجيش" الإسرائيلي، بقوله: "لم يفعل الجيش خيراً في الحرب، ولم نقم بالمهمّة. كل ما فعلناه لم نفعله بشكل صحيح وجيد".
لم تنتهِ تداعيات الحرب مع وقف إطلاق النار، بل أنتجت تأثيرات مهمة على مستويات متعددة في المشهد الإسرائيلي الرسمي والشعبي، وزادت تلك التداعيات حالة السخط والانتقاد الواسع لأداء المستوى السياسي والعسكري خلالها، ما زاد أهمية تداعياتها الإستراتيجية بشكل كبير، من أهمها:
أولاً: أدرك الجميع في "إسرائيل" أنّ القيادة السياسية والعسكرية لم تكن مستعدة بشكل مناسب للحرب ضد حزب الله في صيف 2006، إذ اعتمدت السياسة الإسرائيلية التي تم تبنيها بعد الانسحاب من جنوب لبنان على أنَّ الردع الإسرائيلي قادر على منع اندلاع حرب مع الحزب.
هذا الأمر أدى إلى آثار سلبية مهمة في جاهزية "الجيش" الإسرائيلي، الذي لم يعتقد بأنّ هناك حاجة إلى شنّ حملة عسكرية واسعة النطاق في لبنان. وقد أشار الباحث الإسرائيلي الإستراتيجي أفرايم عنفر، في شرحه أسباب الفشل الإسرائيلي في "حرب لبنان الثانية"، إلى أن "الافتراض السائد في ذلك الوقت هو أن حرباً تقليدية واسعة النطاق على طول حدود إسرائيل غير متوقع، وأن إسرائيل في المستقبل ستشن حروباً صغيرة بشكل أساسي".
برزت عدم جاهزية "الجيش" الإسرائيلي في عدم قدرته على إيقاف صواريخ حزب الله في أي مرحلة من مراحل الحرب، وكانت تطلق بمعدل 200 صاروخ على الجبهة الداخلية الإسرائيلية يومياً، رغم تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي حينها، إيهود أولمرت، في بداية الحرب بأنّ "إسرائيل لن توافق على العيش في ظل تهديد الصواريخ لسكانها... ولن يُسمح بأن تكون رهينة لتلك الصواريخ".
ثانياً: تمثلت خصوصية "حرب لبنان الثانية" في إزالة الحدود بين ميدان المعركة والجبهة الداخلية الإسرائيلية، الأمر الَّذي كانت العقيدة العسكرية الإسرائيلية تحرص على عدم حدوثه، من خلال مبدأ نقل المعركة إلى أرض العدو.
وبذلك، استطاع حزب الله إدخال الجبهة الداخلية الإسرائيلية إلى ميدان المعركة من خلال صواريخه، إذ أطلق 4000 قذيفة صاروخية على الجبهة الداخلية الإسرائيلية خلال فترة الحرب، سقط منها 901 في أماكن مأهولة. وقد تلقت مستوطنة "كريات شمونة" أكبر عدد منها، بما يقارب 520 صاروخاً.
أخفقت القيادة الإسرائيلية في إدراك الأهمية الإستراتيجية للسلاح الصاروخي لدى حزب الله، وقدرته على إحداث تأثيرات حقيقية أثناء سير المعركة، وتداعيات ذلك على معادلات الردع بعد انتهاء المعركة، إذ كانت رؤية "الجيش" الإسرائيلي للصواريخ، وخصوصاً قصيرة المدى (الكاتيوشا)، أنها أسلحة منخفضة التأثير، وليست سلاحاً حاسماً، بسبب عدم دقتها وصغر حجم رؤوسها المتفجّرة نسبياً.
في المقابل، اعتمدت خطّة حزب الله في "حرب لبنان الثانية" على إحداث نوع من أنواع معادلات الردع مع "إسرائيل"، من خلال إدارة ذكية لإمكانياته الصاروخية في الضغط على الخاصرة الرخوة الإسرائيلية (الجبهة الداخلية).
هذا الأمر ساهم في خلق حالة من حرب استنزاف ضد الجبهة الداخلية الإسرائيلية (مستوطنات الشمال بالذات)، بهدف المسّ بنظام حياة المستوطنين في تلك المناطق، من خلال إثارة الرعب وعرقلة نظام الحياة الاعتيادي للمستوطنين الإسرائيليين، ما يجعل هناك حالة من التوازن الردعي النسبي بين استهداف "إسرائيل" للسكان المدنيين اللبنانيين واستهداف حزب الله للجبهة الداخلية الإسرائيلية.
في المحصّلة، أنتجت حرب تموز معادلات ردع جديدة، إذ أثبتت استعداد "إسرائيل" لتدمير البنية التحتية في لبنان، وزرع الدمار الكبير بين السكان المدنيين، وطرد سكان الجنوب من قراهم باتجاه الشمال، في محاولة لزعزعة النسيج الاجتماعي الحساس في لبنان، الأمر الذي اعتقدت أنه نجاح لـ"عقيدة الضاحية" في ردع حزب الله إلى حد كبير، وخصوصاً في ضوء الضغوطات الداخلية اللبنانية والإقليمية عليه، لكن هذا الردع جزئي، والأهم أنه بات متبادلاً من الطرفين، بمعنى أنه منع الحزب من مهاجمة "إسرائيل"، ولكنه لم يمنعه من تثبيت قواعد اشتباك معها، ناهيك بسعي حزب الله لتطوير قدراته العسكرية على مرأى الاستخبارات الإسرائيلية ومسمعها، من دون أن يقدم "الجيش" الإسرائيلي على مهاجمته في الداخل اللبناني.
إنّ عدم جاهزية "الجيش" الإسرائيلي في "حرب لبنان الثانية" يعدّ سبباً في ردع "إسرائيل" عن مهاجمة حزب الله قبل الانتهاء من عملية إتمام الجاهزية والاستعداد التي تضمن تحقيق النصر الحاسم.
وباتت هناك حاجة إسرائيلية إلى البحث عن إستراتيجية جديدة تجاه إدارة الصراع مع حزب الله تتعامل مع معادلة الردع المتبادل الناشئة بعد "حرب لبنان الثانية"، بحيث تحقّق استمرار حالة الهدوء من أجل منح المؤسسة العسكرية والسياسية الوقت اللازم لاستكمال عملية الجاهزية والاستعداد للمعركة المقبلة مع حزب الله من جهة. ومن جهة أخرى، العمل على إعاقة تعاظم قدرات حزب الله العسكرية أثناء تلك الفترة، كي لا يتكرّر خطأ المفاجأة الإسرائيلية الذي حدث آنذاك.
من هنا، نبعت الحاجة الإسرائيلية إلى إستراتيجية "المعركة بين الحربين" كإستراتيجية تدير "إسرائيل" من خلالها توازنات الردع الجديدة بينها وبين حزب الله بعد تلك الحرب.