ما جرى ويجري من مواجهة بين الشعب الفلسطيني والكيان الصهيوني منذ حرب العدوان على غزة في حرب 2008/2009 إلى اليوم أدخل الصراع التاريخي والواقع القائم في مرحلة تاريخية جديدة، وفي مشهد لواقع عياني يفترض بألاّ تخطئه عينٌ أو يتجاهله تقديرُ موقف أو تحليل. وأخذ هذا الوضع يتكرس ويتضخم حتى وصل اليوم إلى مستوى لا سابقة أو مثيل له.
فقطاع غزة تحرّر من الاحتلال، وأصبح أرضاً فلسطينية محرّرة بالرغم من الحصار، وبالرغم من التهديد الدائم باندلاع الحرب. فالمشهد هنا مقاومة مسلحة تقوم على أرض من الأنفاق، ومن الصواريخ التي مداها الأرض الفلسطينية، بالرغم من قبة حديدية لم تمنع من اختراقها. وهذه المقاومة لها قيادة، وحّدت فصائل المقاومة في غرفة مشتركة، وأصبحت الطرف الذي يقرر قواعد الاشتباك العسكري مع العدو، كما يقرر الهدنة ما بين حربين أو اشتباكين.
المشهد القائم الثاني هو انتهاء مرحلة اتفاق أوسلو، ودخول مسار التسوية في مأزق خانق، ودخول سلطة رام الله أزمة بين خطها السياسي، وعلاقتها بالكيان الصهيوني، وكثر الكلام على انتهاء دورها. وقد زاد المشهد تأزماً، مع تطوّر المقاومة في الضفة الغربية والقدس، ولا سيما عام 2021 بعد حرب سيف القدس، وانتفاضة شباب الأراضي الفلسطينية المحتلة في العام 1948.
ومن ثم تطوّرت المقاومة التي ابتدأت بعمليات فردية، لتدخل مرحلة المقاومة المسلحة العلنية من خلال كتيبة مخيم جنين، وقوات عرين الأسود في نابلس، وامتداداتهما التي أخذت تطلق عمليات في القدس والمخيمات والمدن والقرى على مستوى الضفة الغربية.
هذا يعني أن في القدس وفي الضفة الغربية تكرست مقاومة متكاملة، متوازية ومتداخلة، وعلى خط واحد، مع المقاومة في قطاع غزة. وقد أخذت في الشهرين الماضيين تُبلور وجود قيادات محلية تخطط لمرحلة جديدة من أشكال المقاومة المسلحة والشعبية، والمحتضنة من الجماهير والرأي العام.
وهذا يعني أيضاً أن الصراع بين الشعب الفلسطيني وقواه المقاومة فوق الأرض الفلسطينية، حدّدا معالم المواجهة للسنوات القادمة في مواجهة الاحتلال والكيان الصهيوني. وقد طُوي كل حديث دولي وصهيوني عن عملية تسوية، أو مفاوضات، وأصبحت السمة السائدة هي المواجهة المسلحة والانتفاضة الشاملة والحروب. وجاءت حكومة نتنياهو التي يعتبرها البعض الأشد تطرفاً وتصميماً على التوسّع الاستيطاني، وعلى تغيير الواقع القائم في المسجد الأقصى، والتصعيد العسكري، والاقتحامات العسكرية لمواقع المقاومة، لتفتح باب هزيمة للكيان الصهيوني.
وهذا يفرض على الشعب الفلسطيني وفصائله وقواه المقاومة المسلحة، وعلى نخبه، في الداخل والخارج، توحيد الموقف في خوض هذا الصراع، ليس حماية لما تحقق من قواعد اشتباك في قطاع غزة والقدس والضفة الغربية فحسب، وإنما أيضاً، لتحقيق إنجازات جديدة على طريق دحر الاحتلال والتحرير، وذلك من خلال المواجهات القائمة والمستمرة يومياً. وقد أثبتت المواجهات السابقة، حتى الآن، ولنقل خصوصاً ما بعد حرب سيف القدس، أن ميزان القوى العام والخاص مال في غير مصلحة الكيان الصهيوني. وأثبتت التجربة أن ثمة فرصاً تتيح تحقيق انتصارات "جزئية" هامة على أرضية المواجهة القائمة. والدليل ما تعبّر عنه المقارنة بين الوضع الراهن، وما قبله بسنة وسنتين وثلاث سنوات، كما المقارنة مع ما قبل حرب 2008/2009. فالفارق صارخ لا يقبل نقاشاً، طبعاً عدا الذين سيقولون "عنزة ولو طارت".
باختصار، يتشكل الواقع الفلسطيني في مواجهة الكيان الصهيوني بوجود واقعين عيانيين في قطاع غزة والقدس والضفة الغربية ومناطق الـ48، وواقع فلسطيني متعدّد أماكن التواجد خارج فلسطين (فلسطينيو الخارج).
بالنسبة إلى فلسطينيي الداخل، وعلى التحديد بالنسبة إلى مواجهة الكيان الصهيوني مع إبقاء فلسطينيي الـ48 كحالة خاصة "مؤقتاً"، تجد قيادة فلسطينية مشكّلة من سلطة، ولها مشروع سياسي تأسّس على فشل اتفاقات أوسلو. ويعاني من أزمة عميقة مع كل من الكيان الصهيوني وأمريكا، برغم استمرار التنسيق والتعاون.
وثمة حالة المقاومة المشار إليها أعلاه في قطاع غزة والقدس والضفة الغربية، والمتسّمة بحالة المقاومة المسلحة في مواجهة مستمرة مع الاحتلال والكيان الصهيوني، وعبّر عنها المشهد أعلاه. وقد انضمت لها انتفاضة الـ48 في حرب سيف القدس 2021.
وثمة حالة ثالثة متعدّدة الأوجه والتوجهات والتكتلات بينها قاسم مشترك، يتمثل في تخطي ما هو قائم من خلال السعي لإعادة بناء م.ت.ف. وذلك بتوفير بعض الشروط، منها الحشد الواسع من النخب، وفرض عقد مؤتمر وطني ينبثق عنه مجلس وطني ينتخب لجنة تنفيذية، ورئيساً لمنظمة التحرير (اعتبر في السابق رئيساً للشعب الفلسطيني). أي المطلوب استعادة م.ت.ف لقيادة الشعب الفلسطيني.
المشكلة المشتركة بين ممثلي هذا التيار، أنهم لا يعتبرون ما يجري من مقاومة على الأرض، ولا قيادتها، بكافيين لقيادة النضال ومواجهة الكيان الصهيوني. ولهذا يريدون عملياً، سواء أعلنوا ذلك أم لم يعلنوه، تشكيل جبهة بديلة، ومشروع وطني بديل، وأشكال نضال بديلة (كل أشكال النضال "دفعة واحدة")، وقيادة جديدة عملياً قيادة ثالثة، ومشروع وطني آخر، واستراتيجية بديلة.
مشكلة هذا التيار أنه لا يُعلن عدم اعترافه بوجود قيادة ميدانية تخوض النضال من خلال المقاومة، وإلاّ ما الحاجة لقيادة جديدة لمنظمة التحرير؟
وبالمناسبة هل يريدها هذا التيار قيادة جديدة، أم قيادة تمثيلية للمفاوضات؟ فالقيادة الميدانية هي قيادة مقاومة متهمة بالإرهاب، وقيادة م.ت.ف للمفاوضات ليست متهمة بالإرهاب، علماً أنه في الأصل أُريدَ قيادة تحل مكان محمود عباس وفتح، من خلال إعادة بناء م.ت.ف من جديد. لكن لا مصير غير مصير المسار الأوسلوي، وعبثاً يحاول البعض حين يظن نفسه أبرع في المفاوضات.
وهنا ينقسم الموقف الفلسطيني إلى موقف يعتبر نفسه جزءاً من المقاومة المسلحة الجارية في كل من قطاع غزة والقدس والضفة، ويقبل قيادتها للمقاومة، ويحمل كتفاً في دعمها وإسنادها. ويعزز موقفه باعتماده ثوابت الميثاقين 1964/1968، واعتماده استراتيجية وتكتيك الكفاح المسلح، ويستند إلى أن المقاومة محتضنة من الشعب الفلسطيني، ولا سيما في الضفة والقدس إلى حد اعتباره طرفاً فيها ومنها، وليس ملتفاً حولها فقط، فضلاً عن رأي عام فلسطيني وعربي وإسلامي، وأحرار العالم يؤيدها. وهذا هو الخط الصحيح.
أما قيادات سلطة أوسلو، ففي الأغلب أخذت تخرج من الساحة، عدا كوادر فتح، ومن رحِم ربي، ممن انضموا إلى عرين الأسود والمقاومة في القدس والضفة.
يبقى التيار الثالث المُراهن على استراتيجية إعادة بناء م.ت.ف، ولو اختلفت الطرق والنتائج بالنسبة إلى كل طرف من أطرافه، فسوف يتقرر مصيره وينتهي أمره إذا نجح في إعادة بناء م.ت.ف، وشكّل مجلساً وطنياً وقيادة على ما يشتهي؛ لأن معضلته هنا معضلتان: صعوبة إعادة بناء م.ت.ف إلى حد الاستحالة، لأن م.ت.ف صناعة عربية تاريخياً، وقد غسل النظام العربي يديه منها حين قرّر بأنها "الممثل الشرعي والوحيد"، لتعفيه من التزامه بفلسطين. وعندما فشل اتفاق أوسلو أرادها كما هي عليه الآن، ولا يريدها كما أرادها عندما أنشأها سواء في 1964 أم في 1968.
أما لو افترضنا إمكان نشوء ظروف تسمح ببناء م.ت.ف، فستكون المعضلة التي واجهت رعاة اتفاق أوسلو، أو معضلة وجود مقاومة وقيادة وشعب في وادٍ آخر.