منير رشيد
إعتادَ المسلمون الاحتفال بذكرى الإسراءِ والمعراجِ، وهي اللّيلة التّي أسرى بها النّبيُ محمد صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام في مكةَ المكرّمةَ إلى المسجدِ الألقصى في القدس، حيث تُعدُّ هذهِ اللّيلة وما حدث فيها من معجزات للرسولِ الكريم.
﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الإسراء: 1]، ومن الجميل أنْ يتم الاحتفالُ بهذهِ الذّكرى ويُهتم بها، فهي حدثٌ ومعجزةٌ ولها دلالاتٌ وإشاراتٌ ورسائلُ، وإنَّ إحياءها إحدى الوسائلُ والسّبلُ التّي تسهمُ في الوعيِ وتؤكدُ على مكانةِ الأقصى المباركِ.
إنّ الربطَ في الأيةِ الكريمةِ بين المسجدِ الحرام ِفي مكةَ المكرمةِ والمسجدِ الأقصى في فلسطينَ له إشاراتٌ وتنبيهاتٌ ودلالاتٌ وإلّا لكان المعراجُ من مكةَ وحدها بدونِ رحلةِ الإسراء، فالأقصى ليس لشعبٍ بعينه أو لمن حوله فقط أو لمنظمةٍ أو هيئةٍ، ولا يقبلُ أن يكون على طاولةِ التفّاوضِ أو المساومةِ لأنّه ملكُ الأمَّة كلّها بدءًا من ماضيها مرورًا بحاضرها ومستقبلها، وهي تأكيدٌ واضحٌ على أهمّيته والاعتداءِ عليه هو إعتداءٌ على كلّ المساجدِ وأيُّ تهديدٍ يتعرضُ لهُ هو تهديدٌ للمسجد الحرامِ، والتفريطُ فيه هو تفريطٌ بمقدساتِ الأمة، فهو أولى قبلتِهم، فالمسجد الحرام عنوانٌ وحدة قبلتهم بعده.
رحلةُ الإسراء تعني دعوة لكلّ أبناءِ الأُمّةِ أنْ يهبوا للدفاعِ عن أرضِ المسرى وعن مقدساتِها، وإسناد المرابطين فيها، ونُصرة ساكنيها، فالأُمّة تمتلكُ من مقوماتِ النهضةِ وصناعةِ النّصرِ وتحريرِ الأقصى، وما حوله من النّهر إلى البحرِ
إنّ المواجهاتِ التّي يشهدها الأقصى هو إمتدادٌ لعشراتِ الثّوراتِ والانتفاضاتِ والهبّاتِ بدءًا من الهبّاتِ ضدَّ الاستعمارِ البريطانيّ، حيثُ تعتبر ثورةُ البراقِ في الخامسِ عشرَ من آب لعام ألفٍ وتسعمئةٍ وتسعٍ وعشرين أول إنتفاضةٍ فلسطينيةٍ على محاولةِ تهويدِ القدسِ في عهدِ الانتدابِ البريطانيّ، حيثُ حاول َبعضُ اليهودِ وضعَ مقاعدَ وأدوات تتعلقُ بطقوسِهم المزيفة قرب حائِطِ البراقِ بمناسبةِ يومِ غفرانِهم المزعوم،ِ فثارَ المقدسيّون بعدَ سقوطِ عددٍ من الشّهداء والجرحى والمصَابين، ممّا اضطرت سلطات الانتداب البريطانيِّ إزالةَ ما وضعوه من أدواتٍ، ومنعهم من إقامةِ شعائِرِهم.
تأتي هذهِ الذكرى مع إزديادِ الهجماتِ الشّرسةِ على المسجدِ الأقصى المباركِ لتقسيمه مكانيًا بعد أن نجحت سلطاتُ الاحتلال الصّهوني تقسيمَه زمانيًا، وفرضَ ساعات معيّنةٍ لقيام ِالمستوطنين باقتحامِه والتّجوال في ساحاتِه ومحاولةَ ممارسةِ طقوسِهم الباطلةِ وبحمايةٍ من شرطةِ الاحتلالِ وجنودِه.
يحاولُ الاحتلالُ الصّهيوني الضغطَ على المقدسيّين بكل ِّالوسائلِ والسُّبلِ والتّضييق عليهم وكسرِ إرادةِ صمودِهم بالاستيلاء على منازِلهم وأراضيهم وهدمِ منشآتِهم بحجةِ مخالفاتٍ تحت أيّ سببٍ أو ذريعةٍ وعدمِ منحِهم تراخيصَ بناءٍ، إضافة إلى فرضِ ضرائبَ باهظةٍ عليهم لتفريغِ القدسِ من سكانِها لتغييرِ طبيعةِ المدينةِ الديمغرافي.
كما يحاولُ الاحتلالُ تغيير َطبيعةِ المدينةِ الحضارية وهويتها البصرية من خلال مشاريع كالتلفريك والجسور المعلقة لسهولة وصولِ مستوطنيه، عدا عن الحفريات أسفل المسجد الأقصى وقبة الصخرة وساحاته، وهذا يتطلّبُ من الأمةِ أفرادًا ومؤسساتٍ وهيئاتٍ وحكوماتٍ جهودًا مضاعفةً لإسناد أهالي بيتِ المقدس لتثبيت وجودِهم ودعمِ صمودهم.
عندما حاولَ شارون اقتحام المسجدِ الأقصى في الثامنِ والعشرين من أيلول لعامِ ألفين رغم التحذيرات التي تجاهلها، انطلقت انتفاضة شعبية من القدس، امتدت إلى كلّ أرجاء فلسطين ساندتها الشعوب العربية والإسلامية وأحرار العالم ثم تحولت إلى انتفاضةٍ مسلّحةٍ استمرت سنوات.
إنّ انتفاضاتِ الشعبِ الفلسطينيّ وثوراتِه عبر تاريخه النّضاليّ نصرةً للأقصى ودفاعًا عن أرضِه وهويته الحضاريّة ومقدساتِه أكَدتها معركةُ سيفِ القدسِ، وفرضَتْ فيه معادلةَ التحدي والرّدع، ووحدة الموقف والسّاحات، فالأقصى قلبُ فلسطين وبوصلة الصّراع وعلامةُ الوحدةِ ورمزُ الانتماءِ، فهو العنوانُ الجامعُ الذي تلتقي فيه كلُّ الإراداتِ، فهو يشكّلُ المحورَ الأهمَّ القادر على تحريكِ ضِمائرِ أبناءِ الأمّةِ للدفاعِ عنه والذّودِ عن حياضه.
من المؤكّدِ والأكيد أنَّ التطبيعَ مع الاحتلالِ الصّهيوني يُشكّلُ دافعًا إضافيًا له لمزيدٍ من التَّمادي من إعتداءاته ومشاريعه ضدَّ مدينةِ القدسِ وجرائمه ضدَّ ساكنيها، وبمباركة وصمت المطبعين وما درى هؤلاء أن التطبيع ما هو إلا أحد أوجه الاستعمار بأدوات ناعمة وعبث بأحشاء المطبعين وأحشاء بلادهم وطعنه في خاصرةِ المرابطين وكشفِ ظهرِهم، واستهزاءٍ بدماءِ شهدائِهم، ونكران لرباطِهم وكفاحِهم. فالتَّطبيعُ يُصادمُ وجدانَ الأُمّةِ وضميرها برفض ِالاحتلالِ، ولا يُعبَّر عن إرادةِ الشّعوبِ وموقفِها الدّاعم للأقصى وأهلِ فلسطين.
إنّ الرّباط في الأقصى، وشدَّ الرّحال إليهِ دليلُ وعيٍ وإرادةٍ تصدي وتصميم لمنع الاحتلال وردعه من تنفيذ مخططاتِه بفرض واقع داخل أسوار القدس وخارجها، فالمرابطون فيه وأبناء الشعب الفلسطيني يمتلكون من الرّؤيةِ والإرادةِ والخبرةِ والمعرفةِ بالعدو مصممون على حمايةِ مقدسِهم، وطردِ عدوّهم وتحرير بلادهم وبدعم وإسناد أمتهم بكافةِ أشكال الدّعم والإسنادِ وأدواته وأونواعه في أي أرضٍ وتحت كلّ سماء. فواجبٌ ومطلوبٌ بدءًا من دعاء السّاجدين الراكعين، وغرس ِ وتعميقِ حبّ الأقصى في نفوس الأجيال وتوعيتهم بهذه القضيةِ الجوهريّةِ وتنشئتِهم لأداء واجبهم في إسنادِ ودعمِ أهلِ بيت المقدسِ، ودورِهم ومشاركتِهم في معركة التّحرير.
ويقولون متى هو ، قلْ عسى أنْ يكونَ قريبًا ...