أمين محمد حطيط
شكلت الجمهورية الإسلامية التي أقيمت في إيران إثر الثورة التي قادها الإمام الخميني وانتصرت في العام 1979، شكلت هذه الجمهورية تحوّلاً كبيراً في منطقة الشرق الأوسط بخاصة وفي العالم بشكل عام، وذلك لسببين أساسيين أولهما أنها ثورة شعبية فرضت إرادتها على أعتى الإمبراطوريات القائمة في العصر الحديث، الإمبراطورية المحتضنة من التحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدة، والثاني لأنها رفعت شعار استقلال حقيقي فعلي وجدّي كرّسته بشعار «لا شرقية ولا غربية بل جمهورية إسلامية» وتعني به عدم التبعية للخارج أياً كان هذا الخارج شرقاً اوغرباً بل كيان يستمد تعاليمه وقوانينه ومبادئه من الإسلام الحقيقي،
ولأنها هكذا فإنها شكلت خروجاً عن النمط القائم والمألوف عالمياً حيث نجد انّ سلوك التبعية والهيمنة هي المبدأ المسيطر في العلاقات الدولية، هيمنة تفرضها الدول القوية خاصة الغربية منها بقيادة الولايات المتحدة على الدول الأقلّ قوة أو لنقل الدول الفقيرة ودول العالم الثالث او الدول النامية كما يصفونها من أجل مراعاة المشاعر، نقول هذا ولا نعني أنه قبل الثورة الإسلامية في إيران لم يعرف العالم خاصة بعد الحرب الثانية محاولات قيام الدول المستقلة الفعلية، اذ اننا نسجل خاصة في الفترة ما بين 1950 و1970 انّ العالم شهد أكثر من محاولة تحرّر من التبعية فنجحت في البداية لكن الضغط والحصار الغربي أجهضها. وهنا لا بدّ من التنويه بما قامت به حركة عدم الانحياز ومثلثها القيادي المتشكّل من مصر ويوغوسلافيا والهند.
بيد أنّ الحالة الإيرانية أقلقت الغرب بقيادة أميركية وأرعبت دول المحيط خاصة في غربي آسيا، لذلك كان القرار الاستراتيجي المعادي السريع بالقضاء على هذه الثورة ومنع تصديرها ومنع تشكلها نموذجاً يُحتذى في الإقليم وفي العالم بشكل عام؛ لهذا ووجهت هذه الثورة بشتى أنواع المحاربة والضغوط الميدانية والسياسية والإعلامية وشحذت في وجهها سيوف الحصار والعزل والاحتواء منذ أيامها الأولى وحتى اليوم بدءاً بالحرب التي شنّها صدام حسين بتشجيع أميركي وتمويل خليجي (حرب السنوات الثمانية 1980 – 1988) وترافقاً مع سلسلة من التدابير والقرارات الكيدية التي أسميت تجاوزاً «عقوبات اقتصادية» ما تسبّب بإضرار كبيرة للنقد والاقتصاد الإيراني والعزل عن الدورة النقدية العالمية.
وفي بحث موضوعيّ نكاد نقول إنه لم يعرف العالم تقريباً دولة واحدة تعرّضت لما تعرّضت له الجمهورية الإسلامية في إيران من اعتداء او تضييق سواء في ذلك من حيث طول المدة أو تنوّع العدوان، وهو تنوّع يكاد يمسّ بكلّ مفاصل الدولة وحياة المواطن دون أن يراعى في ذلك شيء يمتّ بصلة لشرع أو أخلاق أو قانون أو حسّ إنساني،
لكن إيران رغم كلّ ما تعرّضت له استمرّت في مسيرتها الاستقلالية وابتدعت مناهج واستراتيجيات مواجهة لإقامة الدولة المقاومة والمجتمع المقاوم ثم تشكيل المحور المقاوم واعتماد الاقتصاد المقاوم بشتّى عناوينه، وفروعه وتمكنت بهذا الأمر بالذات أن تلبّي أكثر من 85% من احتياجاتها محققة في ذلك اكتفاءً ذاتياً ملحوظاً، أما في المجال العسكري وهنا كانت المفاجأة الكبرى للجميع من الخصوم والأعداء حيث تمكنت إيران من خوض غمار التصنيع العسكري بجدارة وكسرت احتكار السلاح وبلغت مستوى تضاهي به الدول الكبرى رغم الحصار المتعدّد الأشكال الذي يمارَس عليها، ورغم ذلك تمكنت إيران من امتلاك كلّ ما يلزمها من أسلحة ومعدات عسكرية تكفيها لخوض حرب دفاعية ناجحة في كلّ المجالات مع إرساء معادلة ردع استراتيجي فعّال من شانها أن تمنع العدو من شنّ أيّ اعتداء لأنه سيقابَل بالردّ الإيراني المناسب وفقاً لقاعدة «التناسب والضرورة» والقرار المستقلّ.
لقد تأكد لأعداء الجمهورية الإسلامية الإيرانية، أنّ في هذه الدولة نظاماً قوياً متماسكاً لديه القدرة على المواجهة والدفاع عن النفس بالشكل الناجع، ولكن هؤلاء الأعداء لم ييأسوا في إطلاق موجات عدوانهم ضدّ هذه الدولة، فبعد حرب صدام، استمرّت موجات العدوان بأشكال وأساليب شتى وانقلبت الى الحرب الناعمة المركّبة مع الاستمرار بالتهديد الدائم بالحرب بالقوة الصلبة التي ما فتئت أميركا و»إسرائيل» تهدّدان بها بين الفينة والفينة، لكن القوة الردعية التي باتت متحققة بيد إيران منعت من وضع هذا التهديد موضع التنفيذ ما جعل العدو يركز أكثر على القوة الناعمة الذكية والتي كادت في العام 2009 أن تحقق أهدافاً بليغة ابتغتها أميركا خاصة عندما خرجت شرائح كبيرة من الشعب الإيراني رفضاً لنتائج الانتخابات الرئاسية، احتجاجات استغلها المعسكر المعادي لكن الدولة عرفت كيف تتعامل مع الوضع بحزم ومرونة وحكمة ما أفشل الحرب في صيغتها تلك لكن الأمر لم يتوقف،
ثم كانت الحرب الكونية التي استهدفت سورية في ظاهر الحال، ولكنها كانت تبتغي إسقاط كامل محور المقاومة الذي تنتظم إيران فيه، وهنا أيضاً عرفت إيران كيف تدافع عن المحور وعن نفسها وأن تقف الى جانب سورية وتصل بعد 11 عاماً من المواجهات والمعارك الى واقع تستطيع القول فيها إنّ الأخطار التي هدّدتها من الباب او الميدان السوري قد انحسرت، وإنّ محور المقاومة استطاع بعد هذه الحرب أن يمتلك قوة ومناعة لم يصلها في أيّ من مراحل مساره منذ أن تشكل.
ومع هذا فإنّ الاستهداف الأجنبي المعادي لإيران لم يتوقف، واليوم تتعرّض إيران لحلقة جديدة من سلسلة العدوان وقد تكون هذه الحلقة على قدر من الخطورة والصعوبة تتجاوز في بعض وجوهها ما واجهته إيران في السنين الـ 43 السابقة، نقول ذلك لأنّ أعمال الشغب والفوضى ثم التحوّل الى أعمال الإرهاب المتعدّد الساحات على مساحة إيران، انّ تلك الأعمال كما يبدو قد أعدّ لها إعداداً محترفاً استفاد فيه المخطط مما حصل في سورية بشكل خاص، كما أنه قد يكون رأى فيها فرصة ذهبية لبلوغ أهدافه في تقويض البناء الإيراني.
قبل سنوات قال ولي العهد السعودي بأنه سينقل الحرب الى داخل إيران، وخلال الحملة الانتخابية «الإسرائيلية» قال نتنياهو إنّ المخاطر التي تتهدّد «إسرائيل» الصادرة عن إيران لا علاج لها إلا بالقوة التي تدمّر كامل مصادر التهديد. ومن جهة أخرى نعلم انّ أميركا انسحبت من الاتفاق النووي حول الملف النووي الإيراني وانّ المفاوضات لعودتها فشلت رغم استهلاك ما يناهز السنة على بدئها، وانّ هناك ميلاً لدى بعض المسؤولين الأميركيين الى الاحتكام للقوة بدل التفاوض،
بيد أنه رغم كلّ هذه التهديدات استمرّت القوة التي تملكها إيران تحتلّ موقعاً مؤثراً في الردع يمنع أصحاب الرؤوس الحامية من وضع تهديداتهم موضع التنفيذ ولذلك قد تكون حالة الفوضى والشغب والإرهاب هي الحلّ بالنسبة لهم وهذا ما يبدو أنه اعتمد من قبلهم وما قرار لجنة حقوق الإنسان ضدّ إيران مؤخراً إلا مؤشراً لرعاية غربية بقيادة أميركية لأعمال الشغب وزعزعة الاستقرار فيها. وهنا تبرز أهمية ما يعوّل عليه من حرب بديلة استعرت نارها ليستعيض فيها الأعداء عن الحرب المباشرة كما ذكرنا. وهنا يطرح السؤال هل المنطقة ستكون على موعد مع حرب كونية أخرى بعد الحرب على سورية وتستهدف إيران؟ وكيف يواجه هذا الخطر؟
بداية نقول إنّ الظروف الموضوعية الداخلية لإيران، والظروف الموضوعية الإقليمية والدولية كلها تنبئ بأنّ تكرار الحالة السورية في إيران أمرٌ مستصعَب ومستبعَد، وإذا حاول الآخرون التكرار فإنّ تلك الظروف مضافة إليها الخبرة في التصدّي التي اكتسبت من الميدان السوري، كما أنّ الانشغال الدولي بأزمات قائمة في العالم يمنع استعادة المشهد السوري ويحول مثلاً دون تشكل جبهة من 80 دولة لتصدير الإرهاب او جبهة من 15 دولة لتمويله كما حصل في سورية. ما يعني انّ احتمال نجاح العاصفة الإرهابية التي يحضر لها لاجتياح إيران وإسقاطها هو احتمال ان لم يكن معدوماً، فإنه منخفض السقف ما يجعل التهديد به من غير جدوى، ولكن يبقى أمر التيقظ والسرعة في الحسم أمرين مطلوبين من أجل اختصار مهل العودة الى الحال الطبيعية ومنع حالة الاستنزاف من الاستشراء، فما يجري في إيران الآن ورغم انه مزعج ومؤلم فهو ليس بالقدر الخطر الذي يثير الرعب. وهنا نرى أيضاً دوراً مؤثراً للإعلام لإظهار الحقائق وفضح الإعلام المعادي الذي يستهدف المعنويات ويغذّي الفوضى، ونرى أنّ إيران قادرة بما تملك من قدرات على معالجة الحرب الهجينة البديلة التي تستهدفها الآن. وما المسألة إلا مسألة وقت فقط…