بقلم/ وليد القططي
نقل الأديب والسيناريست أحمد مراد قصة ثورة 1919 ورموزها وقيمها من صفحات كتب التاريخ إلى رواية "1919" المُفعمة بالحيوية والأحداث، ثم إلى فيلم "كيرة والجن" المُترع بالحركة والإثارة.
كيرة والجن
قبلَ عامٍ ونيف، كتبتُ مقالاً بعنوان "عندما تكون الدراما مقاومة". كانت فكرته الأساسية هي دراما المقاومة أو المقاومة بالدراما، واستشهدتُ بمسلسل "جمهورية زفتى" مثالاً. المسلسل التلفزيوني قصته مستوحاة من أحداث ثورة 1919 في مدينة زفتى في محافظة الغربية في مصر.
بطل القصة هو يوسف الجندي الذي قاد الثورة في المدينة، وأعلن استقلالها عن سلطة الاحتلال البريطاني في مصر والحكومة المصرية المتعاونة معها، وشكّل مجلساً من الثوّار لقيادة الثورة وإدارة المدينة، حتى أرسلت سلطة الاحتلال جيشها لقمع الثورة وإعادة المدينة إلى سلطتها.
القصة الحقيقية كانت مصدر إلهام لخيال الفنانين، فأُبدِعتْ بعض الأعمال الفنية الدرامية، أولها مسرحية "إمبراطورية زفتى" عام 1924 لأمين صدقي مؤلفاً وعلي الكسار ممثلاً، وآخرها مسلسل "جمهورية زفتى" ليسري الجندي مؤلفاً وإسماعيل عبد الحافظ مخرجاً. المسلسل أعاد استحضار رموز المقاومة في الذاكرة الجمعية الوطنية، وأعاد إحياء قيم الثورة في الوجدان الشعبي القومي.
مسلسل "جمهورية زفتى" كان السبب في زيارتي للمدينة قبل أسبوعين في منتصف شهر تموز/يوليو الحالي. ما إنْ وصلتُ إلى مكان البيت وسط المدينة، سكنتني روحُ المكانِ الثائرة، وتنسمتُ عبقَ التاريخ المقاوم. كيف لا؟ وهنا كان يسكن أيقونة المقاومة الشعبية، ورمز النضال الوطني، ورئيس "جمهورية زفتى"، المحامي يوسف الجندي.
وتساءلتُ: ماذا لو لم أشاهد - أنا وغيري - المسلسل؟ ماذا لو لم تُخلّد الأعمال الدرامية هذه الرموز الوطنية؟ ألم يكن من شبه المؤكد أن تُنسى وتندثر قصصها في زحمة الأحداث لولا أنْ خلدتها الدراما.
هذا الأمر ينطبق على رموز آخرين في ثورة 1919، مثل أحمد كيرة وعبد القادر الجن، لولا استحضارهما في رواية "1919" وفيلم "كيرة والجن" للأديب والسيناريست أحمد مراد. الرواية أُعيدت طباعتها 14 مرة منذ عام 2014، رغم تلاشي عصر القراءة الورقية، والفيلم حقق نجاحاً كبيراً، رغم تراجع الإقبال الجماهيري على السينما.
نجاح الرواية والفيلم كان حافزاً مُشجّعاً لشراء الرواية وقراءتها، وكلاهما - الرواية والفيلم - إبداع أدبي وفني يُعبّر فيه الكاتب عن نفسه وشعبه كذاتٍ فردية وجمعية تعي هويتها وأهدافها، وتخوض صراعاً مع نقيضها المُحتل المُهدِد لوجودها واستقلالها وكرامتها، لتحقق بذاتها وصراعها وجودها الإنساني الحقيقي، المُعبّر عنه بالأدب والفن، في صورة دراما تاريخية وملحمة وطنية، يُعيد فيها الكاتب اكتشاف ذاته وشعبه، ويُعيد كتابة التاريخ ليرسم ملامح المستقبل، ويُعيد إحياء رموز المقاومة لينفخ فيها من روحه، ويوقظها من سباتها في صفحات الكتب إلى أحداث الحياة في حركة الدراما والواقع.
هذا ما فعله الأديب والسيناريست أحمد مراد عندما نقل قصة ثورة 1919 ورموزها وقيمها من صفحات كتب التاريخ إلى رواية "1919" المُفعمة بالحيوية والأحداث، ثم إلى فيلم "كيرة والجن" المُترع بالحركة والإثارة.
تبدأ الرواية والفيلم مع بداية الاحتلال البريطاني لمصر عام 1882، بعد هزيمة الجيش المصري بقيادة أحمد عرابي في معركة التل الكبير، وتنتهي بنهاية الاحتلال مع جلاء آخر جندي بريطاني عن مصر عام 1956 بعد ثورة يوليو 1952، وموضوعهما المقاومة الشعبية المصرية أثناء ثورة 1919، مع التركيز على المقاومة المسلحة في الثورة، وخصوصاً العمليات الفدائية لمنظمة "اليد السوداء"، وأهم مناضليها أحمد عبد الحي كيرة وعبد القادر شحاته الجن، ومعهما دولت فهمي.
قُتل والدا كيرة والجن - في ظروف مختلفة – على يد الاحتلال البريطاني، فكان حب الانتقام رافداً لحب الوطن كقيمة تستحق التضحية من أجلها لدى الرجلين الثائرين، فقدّم أحمد كيرة حياته كلها شهيداً، فيما قدّم عبد القادر الجن سنوات عمره سجيناً، وذهبت دولت فهمي ضحية الجهل فداء للوطن.
قيمة حب الوطن كانت دافعاً للمقاومة من أجل تحريره، ودافعاً للتضحية من أجل استقلاله، وهي القيمة التي تُعد جوهر الرواية والفيلم، وتتحكم في الخط المركزي لمسار أحداثهما، وكل القيم والمفاهيم الأخرى تخدم هذه القيمة والفكرة، ومنها مبدأ الوحدة الوطنية الضرورية للثورة.
لقد برزت الوحدة بوجود دولت فهمي كامرأة مسيحية في المجموعة الفدائية، والتي كانت عضواً أساسياً ومشاركاً فيها، وبرزت في الشعارات والهتافات التي رفعتها الجماهير في التظاهرات مُعبّرةً عن وحدة المسلمين والمسيحيين ضد الاحتلال.
ونذكر من القيم أيضاً فكرة تشبيه الاحتلال بالعبودية، كما جاء على لسان الثائر أحمد كيرة، موضحاً مفهوم الاحتلال "بأنْ تكون مربوطاً في رقبتك في ساقيه معصوب العينين، ويُلقي إليك الفتات. أنْ تجلد لتدور في دائرة مُفرغة، لتسقي أرضاً لم تعد تملكها، وتنبت زرعاً لم تعد تأكله".
من القيم كذلك مفهوم قابلية الاستعمار عند النخب الحاكمة والمتغربة كسبب لوجود الاحتلال واستمراره، كما جاء على لسان أحد الثوار: "المُحتل مش بيغلبنا بسلاح، بيغلبنا بالرجالة اللي استعمر روحهم".
لم تقتصر القيم الموجودة في الرواية والفيلم على النواحي الإيجابية، فقد امتدت إلى النواحي السلبية كنوعٍ من الواقعية في الأدب والفن، ومن ذلك إبراز دور الجهل والانتهازية والخيانة في الثورة كطبيعة بشرية موجودة في الفرد والمجتمع، فبرز الجهل من خلال قتل دولت فهمي على يد أهلها في الصعيد بتهمة تفريطها في شرفها في القاهرة، لجهلهم بطبيعة عملها في صفوف الثورة والمقاومة.
وبرزت الانتهازية في الثورة في بعض السياسيين الذين ركبوا الثورة، وتولوا المناصب الحكومية بعد تولي سعد زغلول الوزارة عام 1924، وفي تبرير الهروب من عناء المقاومة إلى راحة المفاوضات على لسان مصطفى النحاس: "اللي اختار العنف مش أحسن من اللي اختار الحوار، كلنا بنحاول والكل على طريقته".
وبرزت الخيانة في سقوط أحد الثوار من أفراد المجموعة في التحقيق، هو نجيب الأهواني، ليصبح عميلاً لسلطة الاحتلال ويشي بزملائه، في مقابل الإفراج عنه ونيله حفنة من المال.
حين يكون الأدبُ مقاوماً كرواية "1919"، والفنُ مقاوماً كفيلم "كيرة والجن"، تصبح الدراما سلاحاً يقاوم الظلم، وثورة تتمرد على العبودية، ومصباحاً يبدد الظلام... فتزرع في القلب إيماناً، وفي العقل وعياً، وفي النفس استقامة، وفي الواقع ثورة، فتجعل الشعب أكثر ثقةً بنفسه وقدراته، وأكثر إدراكاً لواقعه وحاضره، وأشد تمسكاً بقضيته وحقوقه، وأقوى إصراراً على امتلاك إرادته ومستقبله.
هذا هو ما يُفسّر الإقبال الشعبي الكبير على قراءة الرواية ومشاهدة الفيلم، في زمنٍ ولّى فيه عصر الروايات الطويلة، وأدبر فيه عصر الأفلام الجادة، ولكن ما زالت الجماهير تحب الأدب والفن عندما يُقدما رموز المقاومة وأبطالها، رغم مرور قرنٍ على غيابهم، وما زالت تحترم الأدب والفن عندما يقدما قيم الثورة رغم أجواء الانهزامية والتطبيع.
رواية "1919" وفيلم "كيرة والجن" استمرارٌ للدق على جدران الخزان، واستمرارٌ للدق على جدران الوعي العربي؛ الدق الذي دعا إليه غسان كنفاني في روايته "لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟"، والدق الذي أصر عليه عبد الرحمن الأبنودي في قصيدته: "يا قبضتي دقي على الجدار.. لحد ليلنا ما يتولد له نهار... يا قبضتي دقي على الحجر.. لحد ما يصحى جميع البشر".