رغم أنّ هذه العبارة تحثّنا على الخروج منها إلى احتمالاتٍ أوسع من كتابتنا أبو عاقلة من وحي ما مثّلتهُ للفلسطينيين، غير أنّ هذه المقالة تسعى إلى كتابة الشهيدة من عدسةٍ مغايرةٍ، تفكّك نقديًّا الجوانب الخطابيّة والممارساتيّة التي انطوى عليها تلقّي المجتمع الإنساني الدوليّ ومؤسساته الحقوقيّة لجريمة مقتلها صباح 11 أيار في مخيم جنين، بما يشتمل على تحليل تفاعلات المجتمع السياسيّ العالميّ وسلطاته الإعلاميّة مع الجريمة، وانتهاءً بالدولة الصهيونيّة ذاتها. تهدف المقالة، بذلك، إلى قراءة تلك التفاعلات كسياساتٍ تاريخيّةٍ ممنهجةٍ نشطتْ في إعادة تصميم التشكّلات الاجتماعيّة للفلسطينيين، وتفعيل سياسة التصنيف والفصل إزاءهم، فضلًا عن إعادة صياغة منظومة العنف الصهيونيّة القائمة.
إنتاج الضحايا «المثاليين»
إنّ مسارعة مرجعيّات المجتمع الدوليّ إلى إدانة جريمة مقتل الصحافية شيرين أبو عاقلة، والمطالبة بفتح لجنة تحقيقٍ تفضي إلى محاسبة المسؤولين، تعكس امتثالًا لمنظومةٍ حقوقيّةٍ تعرّف «الضحايا المناسبين» الذين يسهل إدماجهم ضمن فضاءات نزعة التضامن الإنسانيّ، والمنافَحة عن تبنّي «عدالتهم» دون الاضطرار إلى دفع أيّ ثمنٍ سياسيٍّ لقاءَ ذلك. يُعزى هذا عمومًا إلى اللغة السياسيّة الليبراليّة التي تحكُم القانون الدوليّ الإنسانيّ في حيّزاتٍ ينظُمها الاحتلال أو «النزاع المسلّح»، لتخلقَ من الصحافيين والمُسعفين المُندرجين ضمن خانة «المدنيّة» صنفًا خاصًا يستحق الحمايةَ المطلقة في «أرض المعركة»، باستبطان تمتّعه بالحياديّة والسلميّة والانخراط في سلك المهنيّة الصِرفة. وبينما تنتج هذه اللغة مَخرجًا سلسلًا ومُتوافقًا عليه للإدانة الكونيّة، فإنّها تكرّس تلقائيًّا سياسةَ إقصاءٍ لضحايا فلسطينيين آخرين تمّتْ تصفيتهم بذات العين والسلاح الذي قتل أبو عاقلة، من اعتبار مقتلهم جريمةً، أو التسابق على إدانتها.
يعكس هذا تعذُّرَ أن يتناسب هؤلاء المستهدَفين المُستعمَرين مع الصورة المعياريّة الفُضلى للضحيّة التي نصّتْ عليها المرجعيّات الدوليّة، لا سيّما إنْ كانوا مسلّحين يذودون عن أرضهم، ويمثّل نضالهم استجابةً عقلانيّةً لكونهم ضحايا القهر والطرد الاستعماريَيْن بالدرجة الأولى. وعليه، فإنّ سياسات الدمج والإقصاء تلك تعمل ضمنًا على تطبيع جرائم قتل أولئك المستعمَرين وآلامهم الناشئة عن وجود السلطات الاستعماريّة بذاته، على نحوٍ يساهم في شرعنة استهدافهم من قِبل القاتل الصهيونيّ.
ففي بيانٍ أصدرته منظّمةُ العفو الدوليّة عقبَ جريمة استهداف أبو عاقلة، تمّ حفظ الأخيرة في سجلِّ ما أسمته «القتل غير المشروع»، الذي أدرجت ضمنه حالات قتل ثمانية أطفال فلسطينيين منذ مستهلّ العام الجاري، وأُفرزَ في الوقت عينه صنفًا ضمنيًّا محكومًا بـ«القتل المشروع» بحقّ فلسطينيين مستعمَرين آخرين. ففي حين اعتبر البيانُ الجريمةَ ناتجةً عن نظامٍ يوميٍّ مدفوعٍ بـ«الاستخدام المفرط للقوّة» من قِبل السلطات الإسرائيليّة في خضمّ مساعيها إلى اعتقال مطلوبين، فإنّه، من ناحيةٍ، أودَعَ «قتلها غير المشروع» ضمن ممارسات الفصل العنصريّ؛ على سبيل ذكره «الاعتقال التعسفيّ، والتعذيب، وسوء المعاملة، والعقاب الجماعيّ بحقّ الفلسطينيين، وانتهاك حرية العبادة للمسلمين في المسجد الأقصى».
ومن ناحيةٍ أخرى، كرّس البيانُ سياسةَ إخراج المسلّحين الفلسطينيين عن عالم الضحايا الشرعيين المُعترف بهم، ليعيدَ صياغتهم ككائناتٍ «معتديةٍ» على سيادة الدولة الصهيونيّة التي طبّعتْ «الشرعيّة الدوليّة» استحواذها على معظم فلسطين التاريخيّة، ومنحتْها امتيازَ تجريد الفلسطينيّ من حقّه في استردادها والنضال ضمن حدودها. بموجب ذلك، أدان البيان العمليات الفلسطينيّة الأخيرة في مركزها، وتمادى ضمنًا في تشكيله مظلّةً «أخلاقيّةً» للخطاب الاستعماريّ المنوط بتصنيف قتل المقاومين الفلسطينيين ضمن المساحات القانونيّة المُتوافَق عليها، لا خارجها.
عُقم «الخطايا التمييزيّة»
يُعزى ما تقدّم إلى أنّ السقف الأعلى الذي بلغَهُ الخطابُ الإنسانيّ الدوليّ، متمثّلًا مؤخّرًا في تأطير منظمة العفو الدولية النظامَ الصهيونيَّ كنظام فصلٍ عنصريٍّ، لا ينبني على جريمة بنية الوجود الاستعماريّة الاستيطانيّة التي تتمظهر في المحو والإنشاء والطرد والإحلال، بقدر ما ينبني على بعض ممارساتها «العنصريّة» المنتهكة لحقوق الفلسطينيين. تتبدّى هذه الممارسات التي تمثّل امتدادًا طبيعيًّا و«عرضًا جانبيًّا» لبنية الإبادة غير الشرعيّة، وكأنّها مرجعيّةٌ مركزيّةٌ مستقلّةٌ بلاشرعيّتها، غيرُ متأتّيةٍ من جذرِ إلغاءٍ للفلسطينيّ وسلبٍ لأرضه سابقٍ عليها.
بالتالي، فإنّه رغم تشبيك أكثر الخطابات الإنسانيّة «أخلاقيّةً» جريمةَ إعدام أبو عاقلة بانتهاكاتٍ «تمييزيّة» راهنةٍ مقترفةٍ بحقّ الإنسان الفلسطينيّ، من فصلٍ وحجزٍ في «كانتونات»، وتقييد مجال عبادته وحركته، غير أنّ إيداع ما سبق ضمن سلّة الفصل العنصري يعزل هذه «الخطايا التمييزيّة»، بما فيها مقتل الشهيدة، عن «الخطايا» الأولى الدائمة للمستعمِر المنوطة بإزاحة شعبٍ بأكمله عن سيادته على مبيته وزَرْعه وذكرياته، مقابل انتحالها على أيدي يهودِ مشتّتين حول العالم ارتأوا صياغة أنفسهم مجتمعًا استيطانيًّا موحّدًا على أرض فلسطين.
يعكس هذا فرضًا لسياسة وصلٍ انتقائيٍّ محدودٍ بين الشهيدة وفلسطينيين آخرين يتناغمون ومعياريّة الفصل العنصريّ، من أطفالٍ ومعتقلين إداريين ومصلّين يُحرمون من الحق في التعبّد. وعليه، فإنّ مُعادَلةُ «خطيئة» مقتل أبو عاقلة بحزمة انتهاكاتٍ وممارساتٍ قهريّةٍ «تمييزيّة» تجري هنا وهناك على يد «الأبارتهايد»، وليس بمبدأ نفي الأرض الفلسطينيّة وأصحابها، تزيح مبنى الجريمة ومعناها من الصراع على الأرض إلى الصراع على منظومة حقوقٍ تتفلّت «إسرائيل» من «إكسابها» للفلسطينيّ.
تفتيت الفضاءات الواحدة
يترتّبُ على هذا إنتاجُ حدٍّ فاصلٍ بين الشهيدة والضحايا الشبيهين «المثاليين» بنظر «الإنسانويّة» الكونيّة، وبين فلسطينيين كثرٍ هم ضحايا الوجود الاستعماريّ بالدرجة الأولى؛ أهمّهم اللاجئون والمسلّحون. ذلك أنّ إضفاء الشرعيّة على ذلك الوجود يحجب أبسط حقوق «لاجئي 48» في سبيل إدماجهم ضمن ضحايا الطرد والتطهير، ويخفي كذلك شخصيّة المسلّح كضحيّةٍ ورثْتْ عن أجدادها حالةَ السلب والطرد والتشظية، قبل أنْ يشكّل هذا التجريدُ وقودَها المحرّكَ للرغبة في نزع الاستعمار. يعمل هذا على إعادة تظهير الفدائي كشخصيّةٍ متقاربةٍ مع العسكريّ الصهيونيّ، بوسعها ارتكابُ «جرائم حرب» بحقّ «المدنيين» في قلب «تل أبيب».
تنعكس كلّ معطيات الخطاب «الإنسانيّ» السابق في تفتيت فضاءات الاستهداف الواحد وكذلك النضال الموحّد الجذر، التي يتشارك فيها المستعمَرون الفلسطينيون أينما حلّوا وأيًّا كانت صفتهم الوظيفيّة، مُنتِجةً بذلك تراتبيّةً هرميّةً متجدّدةً تعيد فرز الشهداء الفلسطينيين، وفصل أجسامهم وتجسيداتهم عن بعضهم البعض، بما فيهم الشهيدة أبو عاقلة. تتشكّل هذه التراتبيّة، على سبيل المثال لا الحصر، ما بين ضحيّةٍ مرئيّةٍ محسوبةٍ على سرديّة انتهاك «أحدَ الطرَفيْن» محاذيرَ الاستهداف في ميدان المعركة، وأخرى لا تتوافق شروط مقتلها مع معايير الإنسانيّة الكونيّة.
بذلك، يصنّف ضحايا «خطيئة» وجود المستعمِر الكبرى، إلى ضحايا كاملين يستدعون إدانة قاتليهم ومحاسبتهم، وآخرين منقوصي الحضور لغياب بعض قرائن إثباتها المكفولة دوليًّا، أو لكونهم «أعراضًا جانبيّة» اقتضتْها تفاعلاتُ الميدان، فضلًا عن فئاتٍ أخرى يُحجَبُ تمامًا عن أجسادها وممشى حياتها قبل استشهادها، تاريخُ عذاباتها كضحيّةِ جُرّدت من أرضها وديارها، فقط «لاقترافها خطيئةَ» حمل السلاح، ولتصبح إماتتُها فعلًا يصعب استهجانُه، بل يسهل تسويغه مستقبلًا.
طمس الهويّة باسم حريّة الصحافة
تأسيسًا على كل ما تقدّم، يمكن القول إنّ جريمة مقتل أبو عاقلة تعكس في جوهرها عقيدةَ الاستباحة الصهيونيّة لجسد الفلسطينيّ ومعانيه، لا سيّما من منطلقٍ يبثّ الرغبة الاستيطانيّة في إماتة الرمزيّة السياسيّة للعمل الصحافيّ للشهيدة أبو عاقلة، المحفوظ في ذاكرة الفلسطينيين بمشهديات التحدّي والمقاومة من قلب مخيّم جنين، وبأخرى مؤلمةٍ يساهم نحتُها على الشاشة في استثارة آلامهم جميعًا، وتخليق إنسان المُواجَهة.
مع ذلك، فإنّ غالبيّة العيون الدوليّة المنطلِقة من أسقفٍ أدنى من سقف منظمة العفو الدوليّة، أعادتْ تصميم هذه الجريمة كمحض «خطيئةٍ» يمكن أن ترتقي إلى «جرائم الحرب» المُقترفة من «الدول» بحقّ الصحافيين في أيّ بقعةٍ نزاعيّةٍ حول العالم. كما عزَتْ موجبات إدانتِها إلى الحصانة الافتراضيّة المُشرعنة للصحافيين المكفولة دوليًّا، وقَوْلبتْ عملهم بلغةِ الحياديّة والموضوعيّة و»المهننة» بأبعادها الليبراليّة المفرّغة من الأدلجة السياسيّة، والمُنتَجة بدورها من قِبل القانون الدوليّ الإنسانيّ القاضي بتحييد استهداف الصحافيّ والمسعف والطبيب من هذا الباب.
يبدو ما سبق جليًّا في معظم التصريحات الرسميّة للإدارة الأمريكيّة والأمم المتحدّة، التي نظرت إلى الشهيدة أبو عاقلة كـ»صحافية مخضرمة يمثّل مقتلها خسارةً فادحةً للجسم الصحافيّ، وإهانةً لحريّة الإعلام في كلّ مكانٍ»، وأسقطتْ في الوقت ذاته من تصريحاتها هويّةَ الفاعل أو أحالته إلى صيغة المبنيّ للمجهول، لتكثّف دعواتها إلى إجراء تحقيقاتٍ تتمخّضُ عنها معاقبةُ الجاني. يطمس هذا الخطابُ، الذي يأسر الشهيدة ضمن الهويّة الصحافيّة «المحايدة»، فلسطينيّتَها التي يحوي استذكارها ضمنًا مبرّراتِ استهدافها وفاعلِه، لتتحقق بذلك عمليّةُ فصلها عن بقيّة أبناء شعبها.
يُفضي أيضًا هذا المنطقُ إلى وصِل أبو عاقلة بصحافيين آخرين قٌتلوا في ساحات نزاعٍ بعيدةٍ عن فلسطين، قد لا يجمعها بكثيرين منهم سوى شارة الصحافة (Press) المُعلّقة على بزّاتهم وسياراتهم، مقابل فصل جريمة قتلها عن جرائم سياسةِ المذبحة المُفعَّلة منذ أكثر من 74 عامًا تجاه شعبها الذي تشاركهُ الأرضَ عينها، والألمَ والأملَ ذاتيهما. بذا، تتفوّق شارةُ الصحافة على شارة النكبة المستمرّة واقتلاع فلسطينيّة الجسد والمكان والزمان، بصفتها مُحرّكًا باعثًا للإدانة والتضامن في حالة الشهيدة أبو عاقلة، لتُنتِجَ أيديولوجيا ما يمكن أنْ نسمّيه «القهر المشترك» المبنيّ على محاولة تحويل دماء أبو عاقلة وصحافيين آخرين سقطوا في أوكرانيا وليبيا والعراق، إلى معاناة أحاديّةٍ متجانسةٍ بفعل انتهاك معايير القانون الدوليّ الإنسانيّ الناظمة لحماية الصحافي وسلامته، والضامنة لحريّة عمله.
أيديولوجيا القهر المشترك
تحجب هذه الصورةُ الكبيرةُ مصفوفةَ العنفِ المُركّب الذي يقاسيه صحافيون من دون نظرائهم، من بينهم الشهيدة أبو عاقلة. فهي تطمس حقيقةَ أن الشهيدة ضحيّةُ طبقاتٍ متداخلةٍ من العنف الاستعماريّ، يتقاطع فيها عنفُ «تصفيتها» في الميدان، النابع من إدراكها صحافيّةً «غير محايدةٍ» في الانحياز إلى صورة ما يُطاحنه شعبها يوميًّا وما يغذّيه للانعتاق من قبضة مستعمّره وكفّه، مع عنفِ قراءتها إنسانًا فلسطينيًّا «حرامًا» مُعرّىً بالضرورة من مُوجبات حماية البشر، ومجرّدًا من نفحات العدالة، ليَسْهُل إقصاؤه خارج «القانون» واستباحته بكلّ الطرق الممكنة.
يُعزى هذا فقط إلى كون الشهيدة أبو عاقلة فلسطينيّةَ المنشأ والممشى والهويّة، حيث يرى المستعمِرُ الصهيونيُّ فلسطينيّتَها تهديدًا لوجوده وحاضره، و«شبحًا» يحرُسُ ذاكرةَ الفلسطينيّ التي تنثرها على الشاشة، ويطارِد في الوقت عينِه المستقبلَ الذي يرتئيه المستوطِن. فلطالما ساهمتْ الشهيدة في تجميع الشظايا المتفرّقة لمقاومة الفلسطينيّ، مدركةً في حوارٍ أجرته مع مجلة «عربيات» بُعيد الانتفاضة الثانية أنّه «بالنسبة للمخاطر التي يتعرّض لها الصحافيّ، فهي تحاصر الفلسطينيين كافةً، وليس الصحافيّ فقط! فلماذا الخوف؟».
يمكننا الاستنتاج أنّ إخماد فداحة ذاك العنف المركّب المنحوت على جسد أبو عاقلة في حياتها وموتها، بإدماجه ضمن مظلّة قهر الجسم الصحافيّ، الذي تفسّره حصرًا لغةُ القانون الدوليّ الإنسانيّ كما ذكرنا آنفًا، يولِّد مستوياتٍ مُتشعّبةً من الفصل السياسيّ والوجوديّ. يُعتبر أهمَّ أوجهِ ذلك فصلُ «إسرائيل» عن تاريخ النظم الاستعماريّة والاستعماريّة الاستيطانيّة القائمة على العنف، ووصْلُها بتاريخ وراهن الدول الحداثيّة الشرعيّة التي تحتكر الحقّ في استخدام العنف وتوزيعه، لكنّها قد تفرط أحيانًا في استخدامه، وتسيء توجيهه إلى فئاتٍ محميّةٍ إنسانيًّا من العدسة الدوليّة، مثل الصحافيين ومن يُصنّفون مدنيين على وجه العموم. يتبدّى النظامُ العنيفُ، بذلك، دولةً «طبيعيّةً» تتنازع القوّةَ مع «طرفٍ آخر»، تخطئ وتصيب، وتحترم القانون تارةً، وتخترقه تارةً أخرى.
غفران وراسنة شهيدةً صحافيّةً «مع وقف التنفيذ»
من ناحيةٍ أخرى، يحمل ضمنيًّا ذلك الإخمادُ فصلًا موجعًا لحيثيات إعدام شيرين وشروطه عن عالم إبادة الفلسطينيّ والشروط الوجوديّة المقرونة باستهدافه، ليطالَ تكريسُ الفصلِ أحيانًا عالمَ الزمالة بين الصحافيين الفلسطينيين أنفسهم. فلطالما جرى شرْخُ جرائمِ قتل الصحافيين الغزيين العاملين مثلًا في محطة «الأقصى» وإذاعته المدنيّتَيْن، التابعتَيْن بدورهما لحركة «حماس»، بمفردهم أو مع عوائلهم، عن استهداف آخرين يعملون في وسائلَ إعلاميّةٍ تُحال إلى مصاف المهنيّة والحياديّة، مُنجرّين بذلك إلى سرديّات التصنيف الاستعماريّ والدوليّ للجماعة الوطنيّة الفلسطينيّة ما بين رعايا مدنيين وآخرين مُسلّحين.
لا تشفع للصحافيّ هويّتُه الصحافيّةُ (المدنيّة)، لحمل عدالة قضيّته من المنظور «الإنسانويّ» وإدانة مقتله، حينما يكون انتماءُ عمله إلى مؤسسةٍ وطنيّةٍ تحمل على أكفّها الرغبةُ في محو الاستعمار، لتصبحَ شارتُه الصحافيّة في مهبّ النسيان حينما تكون شارتُه الوطنيّة كثيفةَ الحضور والبرهان، فيجفّ حبر المؤسسات الإنسانيّة أمام عارِ استهدافه. يظلّ هذا النمط من الخطابات نشِطًا في تذرير الشعب الواحد القابع تحت الاستعمار، بصحافييه وأطبائه وأطفاله ومقاوميه المسلّحين، في الوطن والشتات على حدٍّ سواء، إلى شعوبٍ وقبائلَ عدّةٍ مُؤطَّرةٍ بالمدنيّة السلميّة المُوجبة للتضامن أو العسكريّة العنفيّة المُوجِبة للاستهجان؛ أي بين الفلسطينيّ «المهذّب» ونظيره «المشاغب».
ففي صباح اليوم الأول من حزيران، وعلى بُعد أيامٍ معدودةٍ من استشهاد أبو عاقلة، صوّبتْ عينُ أحد جنود الجيش الصهيونيّ رصاصاتها القاتلة على صدر الصحافيّة الفلسطينيّة غفران وراسنة عند مدخل مخيم العروب، وهي في طريقها إلى تسلّم وظيفة صحافية جديدة بعد فترةٍ من التعثّر. مرّتْ الجريمة بصمتٍ مخيفٍ ودون أدنى هَمْس من قِبل المجتمع الإنسانيّ العالميّ «المُنهمِك» في إنتاج سلّة حقوقٍ خاصّةٍ بالصحافيّ وتأمين حياته. إنّ إشاحة نظره تمامًا عن جثّة إحدى المنتميات إلى الجسم الصحافيّ، على عكس تنافُس مؤسساته على التحديق بجثّة أبو عاقلة، تعكس إنتاجًا لسياسة الانحياز من داخل لغة الحياديّة التي يعمل وفقَ شروطها، لتبدو الشهيدةُ وراسنة بنظرهم عاجزةً عن أنْ تنطبقَ على ظروف مقتلها معاييرُه «المثاليّةُ» لقبولها ضمن قائمة الضحايا التي يجري تدويلُ المطالبة بعدالتها.
لم تكن وراسنة ترتدي الزيّ التقليديّ للصحافيين من سترةٍ وخوذةٍ واقيتَيْن؛ ولم تنسج حينها علاقتها مع مخيّم العروب بصفته ميدانًا للتغطية، بل باعتباره «بيتَ» اللجوء لأهلها ومحطَ مرورها اليوميّ. كما لم تكن الشهيدة تنتمي إلى وسيلةٍ إعلاميّةٍ تتمتّع برأسمالٍ ماديٍّ ورمزيٍّ عظيمٍ يمكِّن موتَها من أن يصبحَ أكثرَ مرئيّةً وظهورًا بنظر ذلك المجتمع الإنساني. وسط هذا كلّه، لا يمكن نسيان أنّ «تحييد» الشهيدة جرى تسويغه صهيونيًّا تحت عنوان محاولتها القيامَ بعمليّة طعن، رغم عدم حمل الشهيدة أيَّ أداةٍ توحي بذلك. لا بدّ أن المجتمعُ الإنسانيّ الدوليّ استبطنَ الحيثياتِ السابقةَ ليس فقط بغاية إخراجها عن تصنيف الضحايا المعياريين «المُحايدين»، إنّما أيضًا لنفي قراءة الشهيدة كضحيّةٍ من الأساس من وحي الرواية الصهيونيّة حول ظروف مقتلها. بناءً على هذا الإخراج «الإنسانيّ» لصورة وراسنة، فإنها تظهر فلسطينيّةً «غير محايدةٍ» بالدرجة الأولى، فيما تبقى صورة أبو عاقلة مُعلّقةً ضمن إطار الضحيّة الصحافيّة المثاليّة في المقام الأوّل، لتتحقّق مرةً أخرى عمليّةُ فصل الشهيدتَيْن عن بعضهما البعض رغم انتمائهما إلى الحقل إيّاه والشعب ذاته كذلك.
«المتّهم بريءٌ حتى تثبت إدانته»
وسط هذا كلّه، اجتمعتْ غالبيّة المرجعيّات الحقوقيّة والدبلوماسيّة والإعلاميّة النشطة على المستوى الدوليّ، على اعتبار مقتل أبو عاقلة جريمةً بحقّ الصحافة، ومسمارًا في نعش حريّة الإعلام حول العالم، لتتوحّد خلف المطالبة بتحقيقٍ شاملٍ تتمخّض عنه معاقبةُ المتورّطين في الجريمة. ينتِجُ تداولُ سياسةِ التحقيقِ إزاحةً لموثوقيّة دم أبو عاقلة المُسال بالضرورة على يد المستعمِر الصهيونيّ، إلى نطاقات التشكيك به وهويّة مُريقه؛ الأمر الذي يذلّل على المنظومة العنيفة القاتلة طريقَ التملّص من فِعلتِها اليوميّة، والتنقيب عن شقوقٍ صغيرةٍ تخفّف عن كاهلها عبءَ إيغالها في دم الشهيدة. بل إنّ الركون المُبالَغ به دوليًّا على سياسة التحقيق، التي تستدعي مُراكمةً للشهادات والصور والأدلة من «كلا الطرَفَيْن»، يعمل على ليّ عنق عدالة قضيّة الشهيدة لكونها فلسطينيّة مُستعمَرةً بالدرجة الأولى، عبْر مسْخِها إلى ما يُعادِل القضايا الجنائيّة الصرِفة التي عادةً ما تعيش وسط أوراقٍ متكدّسةٍ، وتتقفّى أكثر البيّنات والتفاصيل التي قد تتراءى لنا سطحيّةً وهامشيّةً.
هكذا، فإنّ جوهرَ جريمة قتل أبو عاقلة المدفوع باستباحة شعبٍ بأكمله على أيدي جماعاتٍ استيطانيّةٍ اتّخذتْ من مظلوميّة معاداة السامية الأوروبيّة جسرًا تبريريًّا للصعود على أجساد الفلسطينيين وتهشيم جمجمة الشهيدة، يتلاشى ويتبخّر لصالح الغرق في تفاصيلَ «تقنيّةٍ» نافلةٍ؛ من مثل نوع البندقية، وعدد طلقات الرصاص، وعيارها، والمسافة التي تفصل القناص عن موقع الشهيدة، والتأكيد على ارتدائها الخوذة والسترة الواقيَتَيْن. يكرّس هذا تحويلًا كاملًا لفرضيّة التعاطي مع «إسرائيل» من منظور الإجراميّة المُدانة على الدوام، نظرًا لأساسيّات تدشينها وبقائها، إلى المنظور المألوف لمنظومة العدالة الجنائيّة البيروقراطيّة، القاضي بأنّ «المتهم بريءٌ حتى تثبت إدانته»، ليجري إسقاط القاعدة على الدولة الصهيونيّة جرّاء افتراضها دولةً غربيّةً حداثيّةً تحكم المحتلين في كلٍّ من الضفة وغزّة.
يساهم هذا المنطقُ الباحثُ عن فاعلٍ منفردٍ خلفَ إطلاق الرصاصات القاتلة تجاه أبو عاقلة، في شقّ طريقِ تفلُّتِ المنظومة الصهيونيّةِ من ممكنات إدانتها بكليّتها وآليّة وجودها. بل ويسهّل عليها العثور على «كبش فداء» تعلّق عليه المسؤوليّة المطلقة عن جريمة إعدام الشهيدة؛ الأمر الذي يُظهرها في هيئةٍ نزيهةٍ شفافةٍ تُبدِّد عنها كلَّ خطاياها التاريخيّة والراهنة، وتحاسب بالقانون من «يخرج» عن «صفّها الأخلاقيّ». تعيد الدولة الصهيونيّة صياغةَ ذاتها كاستثناءٍ أخلاقيٍّ، مقارنةً بالدول الأخرى، من وراء إبداء أقصى جهوزيّتها في التعاون مع لجان التحقيق الدوليّة، وعدم الخشية من نتائجها، ليُعاد تشكيل هويّة الجهة القاتلة وكأنّها الجهة المعنيّة الأولى بإحقاق عدالة شيرين و«الثأر» لدمها من جنديها «المُخالف» لقانونها «الأخلاقيّ».
بالمجمل، تدفع سياسة التحقيق باتجاه تمييع قضية شيرين، وإعادة إنتاج قتلها في كلّ مرّةٍ لا تعتدّ فيها غالبيّةُ الأطراف الدوليّة بدمها النازف المنثور أمام مجتمع المشاهدين على الشاشة كوثيقةٍ بذاتها لا تستحق تكديسًا لسِلالِ الأدلة فوقها، للإشارة إلى القاتل. يرجع هذا إلى أنّ تلك الأطراف تحجب أعينها عن أنّ ذاك الدمَ الوثيقة يسكن وثيقةً أكبر متعلّقةً بالمعيش اليوميّ للفلسطينيّ المُنتهَك في جسده وماله وأرضه.
فخلافًا لوعي الاستدعاء التلقائيّ للممارسة الاستعماريّة الاستيطانيّة تجاه الشهيدة، وجرّ القاتل إلى داخل المشهد وإنْ كان خارج الشاشة، تقرأ المجتمعات الإنسانيّة الدوليّة الوثيقةَ الصورةَ محلَ النقاش بحرفيّتها ومِن منطلق ما هو ظاهرٌ فقط داخل إطارها، بل ومستقلٌّ عمّا حجبته الشاشة نتيجةَ عجز مصوّر الجزيرة، مجدي بنورة، عن التقاط خلفيّة أصوات الرصاص الاستعماريّة بصريًّا بشخوصٍ متوحّشين من لحمٍ ودم.
دفع هذا تلك المجتمعاتِ «الإنسانويّةَ» إلى الجزْم بأنّ جدوى البحث عن «الحقيقة الكاملة»، بكلّ تفصيلاتها، تقبع خارج مشهديّة التقاط جسد أبو عاقلة مُلقىً على الأرض غارقًا بدمه، وبجواره الصحافية شذى حنايشة التي كان يأكلها الشعورُ بالوحدة أمام جسد زميلتها، والعجز المطلق عن الاقتراب منه ومحاولة إنقاذ صاحبته من سلطة الموت؛ إذ كانت طلقات الرصاص تحفّ حنايشة من كلِّ جانبٍ، لتسكنها لحظاتٌ مكثّفةٌ بالفزع من كون مصير زميلتها محتومًا لها.
تراتبيّة الشهادة والصوت
رغم أنّ الأصوات التي تواترتْ بُعيدَ الجريمة من فاه كلٍّ من حنايشة، والمنتج الصحافيّ علي سمودي الذي اخترقتْ رصاصةُ القنّاص ظهرَه، ومجاهد السعدي، وآخرين ارتموا أمام جثمان شيرين لمناداتها «اصحي اصحي شيرين، ما تموتي»، تمثّل شهادة الصدق من ألسنة وأعين مَن رافقَ أبو عاقلة في الميدان لحظة استهدافها واستشهادها، غير أنّ المجال الحقوقيّ والإعلاميّ الدوليّ ظلّ مُصرًّا على حصر التنافس بين مؤسساته على اشتقاق «الحقيقة الكاملة» من لجان تحقيقٍ يشكّلها، تكشف له عن صورٍ ومقاطع فيديو و«وجهة نظر» الطرف «الآخر» وشهاداته بخصوص الجريمة التي اقترفتها يداه.
إنّ هذا التنافس يسلب حقَّ أولئك الشهودِ المستعمَرين الأحياء في التعاضد مع الدم الوثيقة لابنة شعبهم، ليمثّلوا سويّةً وجهَ عدالتها الحقيقيّة. يعكس هذا تاريخًا استعماريًّا واستشراقيًّا طويلًا من عدم الإنصات إلى أصوات وشهادات المجتمعات غير البيضاء حول ما تعيشه وتكابده يوميًّا، بل وافتراض عجزها عن القدرة على الحكي والتعبير بذات مستوى مصداقيّة الإنسان الغربيّ، وإنْ كان حول مجال معاناتها ومأساتها التي رأتها بأمّ أعينها وتمثّلتْها بجميع حواسها.
إنْ كانت هذه السياسة تتقصّد تهميشَ تلك الأصوات وعدم الأخذ بشهاداتها الحيّة، فإنّ المجتمعات البيضاء، بمؤسساتها الحقوقيّة والإعلاميّة، تنطلق من مبدأ استبطان سلطتها الكاملة في القدرة على «التمثيل العادل» لقضايا «غيرها» والإنابة عن لسانها، بل وتجميع الأدلة والشهادات الملائمة لكشف «حقيقة» قضيّةٍ ما. يتجلى هذا في التحقيقات التي أجرتها مؤخّرًا كلٌّ من شبكة CNN والأسوشتيد برس الأمريكتين، والتي توصّلت إلى أنّ جنديًا صهيونيًّا أطلق الرصاص على أبو عاقلة، بشكلٍ منظّمٍ غير عشوائيّ على الإطلاق، كاشفةً كذلك عن عدم تواجد أيّ مسلّحٍ فلسطينيّ في الموقع الذي استُشهدتْ فيه أبو عاقلة.
من ناحيةٍ، يستبطن الاحتفاءُ المبالَغُ به بنتائج التحقيقات الأمريكيّة انعدامَ القيمة والرأسمال الرمزيّ لشهادات الفلسطينيين وأصواتهم الميدانيّة الحيّة من الموقع الذي هُشِّمتْ فيه جمجمةُ زميلتهم الشهيدة، مقابل النظر إلى الإعلام الأبيض بوصفه الصوتَ الأكثر صدقيّةً ومشروعيّةً على الصعيدَيْن المهنيّ والسياسيّ في «اجترار العدالة» المنشودة لشهيدةٍ تنتمي إلى العالم «الآخر».
من ناحيةٍ أخرى، ينمّ الاعتداد الكبير بالتحقيقات الأمريكيّة عن العمل بفرضيّة الشكّ بالموت المحقّق للفلسطينيّ، بل أيضًا بقدرة جسد الميّت على إثبات موته ضمن الشرط الاستعماريّ الذي يعيش تحت سلطته، وقدرة الجسد الحيّ على الصراخ بوجه العالم لبرهنة انطفاء رفيقه الميّت عن وجه الحياة. تستدعي هذه الشكوكيّةُ المُبطّنةُ الحاجةَ إلى سلطةٍ «أعلى» بيضاء تفرض نفسَها على مجالات موت الفلسطيني، للبتّ في الإقرار به من عدمه على يد المستعمِر الصهيونيّ، ليجرّد الاندهاشُ من نتائج التحقيق الإنسانَ الفلسطينيَّ، حيًّا أو ميّتًا، من حقّه البسيط في أن يحوزَ سلطةً على جسده ليعبّر هو أو رفيقه عن انتهائه.
مقابل هذا الشكل من عدم قراءة «موت» أبو عاقلة كشهادةٍ ووثيقةٍ بذاتها تدلّل بديهيًّا على هويّة القاتل في ظلّ السياق العنيف الذي عاشتْ ضمنه، تمّت قراءة موت صحافيين غربيين في الأراضي الأوكرانيّة على إثر الصراع الجاري بين روسيا وأكروانيا، باعتباره وثيقةً دامغةً بذاتها، تستدعي تلقائيًّا عنوانَ الجاني الروسيّ و«عاره»، و«مظلوميّة» المجنيّ عليه ومأساته؛ الأمر الذي يبدّد الحاجةَ إلى الحفر المضني في الصور والأوراق ومقاطع الفيديو للكشف عن خيوط الجريمة و«حقيقتها». يُترجِم هذا، كذلك، تراتبيّةً هرميّةً بين المجتمعات المهيمنة والمهمّشة، ليس فقط على صعيد جدارتها بالحياة، بل أيضًا على صعيد جدارتها بالموت، والتوقّف عنده مليًّا والتحقّق من أمره.
من عار الجريمة إلى «شجاعة الاعتراف»
من المهم الإشارة إلى أنّ أيّ إقرارٍ صهيونيٍّ نهائيٍّ بكون قتل أبو عاقلة لا يعدو خطأً ميدانيًّا، مع همساتٍ اعتذاريّةٍ مُحتملةٍ، يعني استخدامًا للجريمة في سبيل تثبيط وجوب شعورهم بالعار، وتفعيلِ شعورٍ مُنتشٍ بـ«شجاعة» الاعتراف بالخطأ الذي يعتبرونه استثنائيًّا، بدلًا منه. تظهر «إسرائيل»، بذلك في رداء «التفوّق الأخلاقيّ» على دولٍ أخرى ترى من العسير بلوغها مرتبةَ الاعتراف التي وصلتْ هي إليه. تعزو الدولة الصهيونية ذلك «الامتياز» ضمنيًّا إلى «حقيقة» تعيين سجلّها شاغرًا تقريبًا من الضحايا، خلافًا لتلك الدول التي يتعذّر عليها نيلُ شرف «شجاعة» الاعتراف، على اعتبار أنّ سجلّها مُشبّعٌ بفائضٍ من الضحايا.
هكذا في حالة تحويل القاعدة المُندغِمة بالعنف، التي تحكُم علاقة المستعمِر بالمستعمَر والمستوطِن بالأصلانيّ، وتنظُمُ بالضرورة علاقةَ القناص الصهيونيّ بالشهيدة الفلسطينيّة أبو عاقلة، إلى محض علاقةٍ استثنائيّةٍ، فإنّ الدولة الصهيونيّة تتمكّن من ترميم صورتها وغسل عارها التاريخيّ، عبْر الاستفادة من «جريمة الاستثناء» في إعادة تعيين وجودها على مقاس المنظومة الأخلاقيّة المحكومة بـ«طهارة السلاح» واستحالة تلوّثه بدماء المدنيين، بشكلٍ يضفي الشرعيّة على «نضالها» ضدّ «المخرّبين» الفلسطينيين. يتمّ ذلك عوضًا عن مداولة جريمة إعدام أبو عاقلة كحالةٍ تتكامل مع الجرائم السابقة والقادمة المحتملة بحقّ الفلسطينيّ، من أجل قراءتها فرصةً كثيفةً لنزع الشرعيّة عن الدولة الصهيونيّة بكليّتها.
خاتمة
إنّ الوقوف عند التفاعلات المهيمنة مع جريمة قتل شيرين أبو عاقلة، يستدعي حفرًا نقديًّا في الخطاب السائد حول «طمس الحقيقة» كمبتغى مرجعيٍّ للدولة الاستعماريّة من وراء استهداف الصحافيين الفلسطينيين عمومًا، لدرجة أنْ تحوّلَ إلى كليشيه يتواتر على لسان الصحافيّ نفسه في معرض أيّ جريمة قتلٍ تستهدف زميلًا له. تتمثّل إشكاليّة هذا الخطاب في افتراضِهِ «صيغةَ الحقيقة» محمولةً على النقل الوسائطيّ «الموضوعيّ» لجرائم المستعمِر الصهيونيّ، وليس باعتبار «الحقيقة» المسعيّ إلى تطويقها وقتلها، شكلًا محدّدًا من أشكال الخطاب، يجريّ صكّه على صورةٍ أو مشهدٍ ما، ويُنتِج بدوره سرديّةً وطنيّةً جلّيةً وسط عالمٍ مُتدفّقٍ من السرديّات للصورة ذاتها من أعينٍ مختلفةٍ للصحافيين ووسائلهم الإعلاميّة.
ففي زحمة النقل لما يجري على أرضنا، لا يبالي العدوّ كثيرًا بفكرة «كشف» الجريمة ذاتها، وإلا لكانَ قد استهدفَ صحافيين مرابطين عند مهمّة «الكشف المحايد» ويعملون لصالح الإعلام الغربيّ أو العربيّ المستعمَر من قِبله. بالمقابل، فإنّه يتقصّد طمسَ صوت الخطاب الوطنيّ الصادر عن بعض الصحافيين، الذي بوسعه أنْ يغذّي ذاكرتنا ومخيالنا بعقيدة التحرير والعودة. صدح لسان الشهيدة أبو عاقلة يومًا بالقول «من أهمّ التغطيات التي واكبتُها عمليّةُ إخلاء مستوطنات قطاع غزّة. لأوّل مرة كنّا نعيش إخلاءَ مستوطنين. بالعادة نغطّي بيوتًا تُهدَم وفلسطينيين يُهجَّرون. هذه أوّل مرّة نشهد فيها تحريرَ جزءٍ ولو صغير جدًا من فلسطين». هكذا بإدراكنا القتلَ متأتّيًا من «حقيقة» غرسِ الصحافيّ عملَه في تربة البلاد والهويّة الفلسطينيّة، نعود إلى مُبتدأ الاستهداف لفلسطينيّته المثيرة لقلق المستوطِن الوجوديّ بالدرجة الأولى، وليس لفكرة الصحافة التي جرى مسخها بالمفاهيم «الإنسانيّة» المعاصرة، ليصعُبَ بالتالي فصلُ الرغبةِ في استباحته عن استباحة الجسد الجمعيّ الفلسطينيّ وجماعته الوطنيّة.
فرغم كلّ محاولات سرقة الشهيدة أبو عاقلة من حضن شعبها باسم «الحقيقة» و«العدالة» وحريّة الصحافة، غير أنّ الحزن الاجتماعيّ الغاضب الذي تشكّلَ على مدار خارطة أماكن تواجُدِ الفلسطينيين بعد جريمة قتلها، ترجمَ «حقيقة» أنّ لا عدالة للشهيدة يمكن إحقاقُها سوى من وسط غضب أبناء شعبها الذين ينتمون إلى صوتها وتنتمي هي إلى صوتهم بالضرورة. حمَلَها المقاومون على أكفّهم وأكتافهم، وطافوا بها مخيّمَ جنين الذي بحثتْ يومًا بين ركامه يدًا بيدٍ مع أمّ أحمد عن أبنائها الشهداء في الانتفاضة الثانية، لتواسينا جميعًا بعبارة «من جنين الأبيّة طلعتْ شيرين شمعة مضويّة». فيما استحالَ مكانُ استشهادها مزارًا للذكرى والذاكرة يحجّ إليه الأطفال قبل الكبار، وركضتْ خلف جثمانها أقدامُ أبناء مخيم قلنديا، مُبدّدين الحاجز الذي أمامهم إلى رملٍ وورقٍ. وكان التعدّي بالهراوات على موتها وسط المدينة المقدّسة، تعبيرًا عن تناثُرِ الحيوات الفلسطينيّة من قلْبِ رحيلها والعَلَمِ الذي لُفَّ جثمانها به. «في بعض الغياب حضورٌ أكبر»، هكذا كتبتْ شيرين يومًا على صفحتها، لتكُوْنَ في حاضرنا ومستقبلنا العبارةَ ذاتَها بحذافيرها.
المصدر: حبر