بقلم: راغدة عسيران
في أول فجر من شهر رمضان المبارك، تصدى ثوار "كتيبة جنين" لجيش الغزاة في منطقة عرابة جنين ودارت معركة ارتقى خلالها المجاهدون الثوار صائب عباهرة (30 عامًا) وخليل طوالبة (24 عامًا) من محافظة جنين، وسيف أبو لبدة (25 عامًا) من محافظة طولكرم، وأصيب أربعة عناصر من القوات الخاصة الصهيونية، أحدهم بحالة خطرة، واتضح فيما بعد أنه ضابط مقدّم في وحدة اليمام الإرهابية، والمسؤول عن إغتيال عدد من الشهداء (أشرف نعالوة وصالح البرغوثي) في الضفة الغربية.
وقبل هذه المواجهة بيومين، اقتحمت قوات العدو مخيم جنين في عملية "كاسر الأمواج" الإرهابية، في محاولة لاستعادة هيبتها والتعويض عن فشلها في ايقاف العمليات البطولية في الداخل المحتل عام 1948، حيث قتل 11 صهيونيا خلال بضعة أيام. لكن كان مجاهدو مخيم جنين لهم بالمرصاد، فتصدوا ببسالة لهذا الاقتحام الضخم، بالجنود والآليات، وأوقعوا جريحا صهيونيا خلال اشتباكات عنيفة، حيث استشهد مقاومان، سند أبو عطية (17 عاما) ويزيد السعدي (27 عاما) وجرح 15 مواطنا، لكنهم أفشلوا الاقتحام و"كاسر الأمواج".
فأعلن القائد زياد النخالة، الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، الاستنفار العام في "سرايا القدس" للتصدي لقوات العدو وحماية الشعب الفلسطيني في كل مكان. وأكدت حركة الجهاد الإسلامي، بعد اغتيال الشهداء الثلاثة على دوار عرابة، "أن تلك الدماء لن تذهب هدراً. فالمجاهدون سيحملون وصيتهم وأمانة مواصلة طريقهم الجهادي المقاوم، وسيستمرون في قتال العدو والتصدي له والرد على جرائمه بكل إصرار وثبات مهما بلغت التضحيات"، فيما أكّد القيادي بسام السعدي أن "شهداء فجر رمضان الأبطال في جنين، قدموا الواجب على الإمكان... أن ذلك النموذج المقاوم سيخرج كالعنقاء من تحت الرماد، وسيكون عصيآ على الكسر".
لم تكن معركة مخيم جنين، قبل 20 عاما، معركة عادية خاضها الشعب الفلسطيني ومجاهدوه، ضد الاحتلال. فكانت أول معركة يقدم عليها جيش العدو بطائراته القتالية ودباباته والمئات من جنوده، منذ العام 1967، ضد مجموعة من المقاتلين الفلسطينيين قرّروا التصدي لقواته التدميرية، والدفاع عن مخيّم لا تتجاوز مساحته الكيلومتر الواحد، ورفض الانصياع الى جبروته، أي الخروج من المخيم والسماح له، طوعيا، بتدميره واعتقال أبناءه وقتل مجاهديه، وإلغاء وجوده كبؤرة مقاومة موحّدة ضد وجوده، ينطلق منها المجاهدون لتنفيذ عمليات استشهادية في الداخل المحتل وإرساء معادلة جديدة في مقاومة العدو.
قبل 20 عاما، كان الشهيد محمود طوالبة يبث الروح الجهادية بين أبناء وأطفال ونساء مخيم جنين وجواره، وهو من قال "إن عمليات الاغتيال لن تردعنا ولن تردع الجهاد الإسلامي، ولا كتائب شهداء الأقصى، ولا القسام، ولا الشعب الفلسطيني كله، بل سنواصل نضالنا واقسم بالانتقام لدماء رفاقي". لقد صنع جيلا من المقاومين، ينتمون الى مدرسة الشهيد الدكتور فتحي الشقاقي. لقد أصبح أطفال البارحة شهداء اليوم، ليس للدفاع عن المخيم وأهله وتاريخه فحسب، بل لشنّ الهجمات على قوات الاحتلال والانطلاق نحو القدس. لقد صرّح القيادي في حركة الجهاد الإسلامي، المُحرّر الشيخ خضر عدنان "بأننا خلف جيل جهادي مؤمن بوعده تعالى لعباده المؤمنين، وجيل لا يعرف الخوف ويتقدم الميادين منتظراً النصر أو الشهادة.. بعد عقدين على معركة مخيم جنين الخالدة وارتقاء الشهيد القائد محمود طوالبة وصحبه، يحمل الراية ابن عمومته المجاهد خليل طوالبة، الذي كان رضيعاً وقت معركة المخيم 2002 ويُستشهد اليوم مقبلاً غير مدبر."
وكان الأمين العام السابق لحركة الجهاد الإسلامي، الراحل المجاهد د. رمضان عبد الله شلّح قد أكّد على دور هؤلاء المجاهدين في مخيم جنين في مسيرة التحرير، قائلا: "فقد صمد محمود طوالبه ورياض بدير وطه الزبيدي وغيرهم من أبطال الجهاد والمقاومة ودافعوا ببسالة عن راية الجهاد وفلسطين التي عمّدوها بدمائهم التي ستبقى منارة للأجيال تستمد منها العزيمة لتواصل معركة الجهاد"، و"قد شكّل صمودهم الاسطوري مركز تحوّل في تاريخ القضية الفلسطينية"، و"إننا وبرغم استشهاد عشرات المقاتلين نقول إن ما حدث كان انتصاراً لمخيم جنين ومجاهديه وسنحصد ثمرة هذا النصر بإذن الله في إقبال الشباب الفلسطيني على الجهاد والاستشهاد أولاً وفي دحر الاحتلال ثانياً." وهذا ما ظهر فعلا بعد 20 عاما على المعركة البطولية التي خاضها مخيم جنين وأهله ومقاوموه.
من أهم المرتكزات الفكرية لمدرسة الشهيد فتحي الشقاقي، التي عمل وفقها الشهيد محمود طوالبة، في المخيم وجواره، منذ التحاقه بحركة الجهاد الإسلامي وسرايا القدس، هي وحدة الشعب الفلسطيني ووحدة المقاومين في مواجهة العدو. وهي أهم سمات معركة مخيم جنين، الذي انتصر بصموده ووحدته أمام الهمجية الصهيونية. يروي العديد من المدافعين عن المخيم، قبل 20 عاما، كيف كان الشهيد يتنقل من محور الى آخر لدعم المجاهدين من كافة التنظيمات المشاركة في المعركة، وكيف وزّع المتفجرات التي كان يصنعها مع الأسير الشيخ علي صفوري وغيره، على المقاتلين دون تمييز. كما روى أهل المخيم كيف كان يجول في المخيم ويستمع اليهم ويساعدهم ويلبي احتياجاتهم في أيام الحصار، ويحرص على أمنهم وراحتهم.
المرتكز الآخر هو تقديم الواجب على الإمكان، الذي يصنع المعجزات، في كل ميادين الصراع مع الصهاينة. تقديم الواجب، واجب قتال العدو لتحرير الأرض والإنسان، على الإمكان، في ظل الهيمنة الصهيو- أميركية على المنطقة والعالم، يعني عدم انتظار الظروف الملائمة لبدء المعركة، بل العمل من أجل تغييرها وتغيير موازين القوى في الميدان، التي ليست لصالح المجاهدين والمقاومين في الوقت الحاضر. تقديم الواجب على الإمكان، يقول الشهيد الشقاقي، هو "كلمة السر التي التقتها الحركة"، التي تطلق الثورة، وتعطيها معنى يتجاوز الحسابات المادية.
وقد انطلق منها الشهيد محمود طوالبة عندما قرّر مع إخوانه المجاهدين، التصدي لاقتحام المخيّم وتدميره على رؤوسهم، قبل عقدين من الزمن. كما انطلقت منها كتيبة جنين، من سجن جلبوع وفي منطقة جنين، في ظل ظروف صعبة، حيث التنسيق الأمني بين أجهزة السلطة والأجهزة الصهيونية لملاحقة المقاومين وتدمير بنيتهم التنظيمية، والتزاحم العربي الرسمي للتطبيع مع كيان العدو بالتزامن مع مشاريع تصفية القضية الفلسطينية، مرة أخرى، وهجوم استيطاني هيستيري صهيوني على كل الأراضي الفلسطينية. فكان لا بدّ من زعزعة سيطرة العدو في الضفة الغربية، بعد معركة سيف القدس. فكان لا بد من تكريس فكرة تقديم الواجب على الإمكان، رغم كل الظروف السلبية. فأنتجت العمل الجهادي المتصاعد في جنين ونابلس وطولكرم والخليل، وعملية الهروب من سجن جلبوع. وأربكت قوات العدو المجرم، كما أربكت كل من يسعى الى "التهدئة" وعدم القيام بالواجب.
ولد الشهيد محمود طوالبة في مخيم جنين في العام 1979، وأمضى حياته القصيرة في وسط المخيم. مع انطلاقة انتفاضة الأقصى، التحق بصفوف حركة الجهاد الإسلامي وسرايا القدس بعد أن تعرّف على الشهيد محمد بشارات (1973-2001) وعمل معه وقاتل إلى جانبه، وشاركه في كثير من عمليات إطلاق النار على الطرق الالتفافية التي كانت تمر منها قوافل المستوطنين والجيش الصهيوني. وبعد أن تمكّن من استعمال السلاح وتصنيع المواد المتفجرة، عُيّن قائداً عسكرياً لسرايا القدس في المخيّم ، وعمل من خلال موقعه على الإشراف والتنفيذ المباشر لكثير من العمليات الاستشهادية التي قامت بها سرايا القدس.
اعتقلته السلطة في أواخر العام 2001 مما أثار تظاهرات شعبية استمرت ثلاثة أيام أمام أحد المراكز الأمنية قرب جنين حيث كان معتقلاً، ونقل لاحقاً إلى سجن نابلس حيث نجح في الفرار بعد أن استهدف الصهاينة المعتقل بهدف القضاء على من فيه. استشهد خلال معركة جنين في يوم الاثنين 8/4/2002، بعد محاصرته مع عدد من المجاهدين في أحد المنازل وقصف المنزل من قبل طائرات العدو.
بعد عدة سنوات على استشهاده، تقول والدته "فإننا نذكر الجميع بطولات معركة مخيم جنين ومحمود طوالبة وكل الشهداء الأحرار المجاهدين لنستصرخ الجميع بمواصلة المشوار والمسيرة. فشعبنا لم ييأس ولم يستسلم ويصرّ على حمل الراية. ونحن كلنا مستعدون للتضحية ولن نفرط بوصايا ومبادئ محمود ورفاقه الشهداء حتى نحقق النصر والحرية والتحرير وتحرير المعتقلين والمعتقلات وأرضنا وشعبنا. ونقول لمحمود القائد لن يذهب دمك هدرا لأننا عاهدناك ولن نخون القسم".
هي الكلمات التي أطلقها قبل إيام القائد زياد النخالة، الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي، متوجها للمجاهدين وللشعب الفلسطيني قائلا "فلِنحفظ وصاياهم ونكمل مسيرتهم، وبكل ما نملك من ايمان مطلق بان نصر الله قادم لا محالة بإذن الله."