بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
على مدى ثلاثة أيامٍ ولياليهن، في ربوع القسم الأسيوي الهادئ من العاصمة التركية اسطنبول، بعيداً عن الصخب والضوضاء، والأسواق التجارية والمناطق السياحية، وحركة الناس الدؤوبة التي لا تنقطع، وسيل السيارات والحافلات ووسائل النقل التي لا تتوقف، وفي فندقٍ ضخمٍ مترامي الأطراف مخصصٍ للمؤتمرات والمعارض، يطل على البحر ويشرف على مداخل المدينة، ويترائى للعابرين كأنه قلعةٌ قديمةٌ أو قصرٌ مشيدٌ، اتسعت غرفه المتنوعة وقاعاته الكثيرة لأكثر من ألف عضوٍ ومشاركٍ، جاؤوا من أكثر من خمسين دولةٍ عربيةٍ وأجنبية، يمثلون شتات الشعب الفلسطيني، ويعبرون عن كل مناطق لجوئه، ويرسمون بجمعهم جغرافية وطنهم، وحدود بلادهم التاريخية، ويشكلون بتنوعهم القشيب نسيج فلسطين الاجتماعي، وألوانها الطبيعية ومشاربها الفكرية.
هو الانعقاد الثاني لمؤتمر فلسطينيي الخارج، الذي كان أوله في العام 2017، وحضره ما يزيد عن ستة آلاف مشاركٍ، من البلاد العربية والدول الأجنبية، ومن قاطني القارة الأمريكية الشمالية والجنوبية، وقد أريد له في حينه أن يكون برلمان الفلسطينيين في الخارج، ومجلسهم الوطني في الشتات، ومنبرهم الحر في بلاد الغربة واللجوء، وإطارهم العام الذي يعبر عنهم وينطق باسمهم، ويبين مواقفهم ويصوغ سياستهم، وجهازهم الرقابي الذي يراقب أداء القيادة الفلسطينية، ويرصد سياستها ويحاسب قادتها، وينبه ويحذر مسؤوليها، سواء كانوا يمثلون السلطة الفلسطينية بإطارها الرسمي، أو فصائل المقاومة بتمثيلها الشعبي.
بذل منظمو المؤتمر، والمشرفون على انعقاده، الذين يُشكرون ويُقدرون، جهوداً مضنيةً لضمان جمع أعضائه الذين تجاوزوا الألف عدداً، ونجاح أعماله المنوطة به والمأمولة منه، وتذليل الصعاب التي تحول دون انعقاده، وتأمين فرصة استضافته وكلفة انعقاده، وعملت اللجنة التحضيرية بدأبٍ ونشاطٍ لفترةٍ طويلةٍ، تتابع المرشحين وتتواصل مع الموافقين، وتوجه الدعوات إلى ضيوف الشرف العرب، الذين حرصوا أن يكون لهم دور في تشجيع الفلسطينيين وحماية قضيتهم، وتحصين مشروعهم، ومحضهم النصح السديد والرأي الرشيد.
لم تكن فكرة تأسيس مؤتمر فلسطينيي الخارج فكرةً اعتباطية، أو عملاً عبثياً، أو رغبةً مزاجيةً لا هدف لها ولا غايةً منها، كما لم يكن المؤتمر مناكفاً للمؤسسات الفلسطينية، أو منافساً لها، أو ساعياً للحلول مكانها أو القيام بأدوارها، بالقدر الذي كان يتطلع إلى تحصين القضية الفلسطينية، وتصويب مسارها، وفضح ومحاسبة المنحرفين والمفرطين من قيادتها، وتمكين عامة الفلسطينيين من التعبير عن مواقفهم، وبيان آرائهم فيما يتعلق بقضيتهم، وهم الذين هُمِّشوا عمداً وأُهملوا قصداً، وأُسقطَ دورهم في الوطن، وشطب حقهم في العودة إليه، رغم أن عددهم يناهز عدد الفلسطينيين المرابطين في الوطن، ويكاد يصل إلى سبعة ملايين فلسطيني.
فهل نجح المؤتمر في مهمته، وأدى الرسالة التي انبرى لها وتطوع للقيام بها، وحقق الغاية التي انطلق أساساً لأجلها، واستطاع أن يكون حقاً برلمان الفلسطينيين في الخارج، وصوتهم الحر وضميرهم الثائر اليقظ، أم أنه فشل في المهمة، واكتفى من المؤتمر بالجلسة الافتتاحية، التي نقلت الصورة ورفعت الصوت، واستعاض عن الأهداف الكثيرة التي أعلن عنها بشعاراتٍ رفعها، وندواتٍ عقدها، ومعارض نظمها، وحفلاتٍ فنيةٍ كان لها أثرها، ولقاءاتٍ جانبية كثيرة لا نقلل من قيمتها، ولا نبخسها حقها، ولا نستخف بحاجتنا إليها، سواء للتعارف الجديد والتشبيك المتين، أو لتجديد القديم وتأطير القائم، وتبادل الأفكار وتنسيق الجهود.
الحقيقة أن المؤتمر قد نجح في تحقيق بعض ما ذكرت أعلاه، وتمكن من تجديد العهد ومواصلة المسيرة لأربعة سنواتٍ قادمة، وهو أشد ما يكون حماسةً واندفاعاً نحو العمل المقاوم، وقد شد الرحال إليه وشارك فيه مئات الفلسطينيين على نفقتهم الخاصة، جاؤوا من أماكن بعيدة وأخرى قريبة، وتحملوا مشاق السفر وتكاليف الإقامة، ولم يبدوا تبرماً أو ضيقاً، أو سخطاً وضيقاً، بل اعتبروا ذلك مساهمةً منهم في النضال في سبيل تحرير وطنهم وتطهير بلادهم.
لكن المؤتمر بعمومه، أو القائمين عليه والمشرفين والمنظمين الذين لا نشك في جهودهم وتضحياتهم، ولا نتهمهم في نواياهم ومقاصدهم، قد خانتهم الحكمة وجانبهم الصواب في أكثر من موطنٍ، وظهرت أخطاؤهم وبانت عيوبهم، فأصاب مؤتمرهم عوارٌ في الشكل والمضمون، وخللٌ في المهمة والرسالة، وانحرافٌ عن الهدف والغاية، ولربما ما كانوا يقصدون ذلك أو يتعمدون وقوعه، لكن الوقائع لا تحابي أحداً، والنتائج لا تخطئ التقدير ولا تضل في الأحكام.
كان ينبغي على اللجنة التحضيرية للمؤتمر أن تنتقي وتختار، وأن تمحص في الأسماء وتدقق في الدعوات، وأن تجتهد في دعوة النخب والكفاءات، وأصحاب الخبرة والتجربة، والفكر والمعرفة، والدور والتأثير، والعمق والتحليل، ممن يستطيعون القيام بالمهمة المنوطة بالمؤتمر خير قيام، ويمثلون الشتات الفلسطيني أفضل وأشمل تمثيلٍ، ولا تركز على العدد والشكل فقط وتهمل الطاقات وأصاحاب الكفاءة والهمم.
علماً أنني لا أحط من قدر المدعوين، ولا أقلل من شأنهم، ولا أستخف بقدراتهم، فكونهم فلسطينيين يكفي، إذ لا يوجد فلسطيني لا يعي السياسة ولا يفهم أسرار القضية، أو لا يحسن العمل لها والدفاع عنها، أو يتردد في المقاومة من أجلها والتضحية في سبيلها، ورغم ذلك فقد كان ينبغي أن تجتهد اللجنة التحضيرية في انتقاء الأفضل والأفعل، والأكثر حضوراً والأصدق تمثيلاً.
ويُعاب على المؤتمر أنه كان ذا لونٍ واحدٍ تقريباً، وأن أغلب المشاركين فيه ينتسبون إلى تيارٍ سياسي واحدٍ، وقد كانت لهم الغلبة والحظوة، والأولوية والأفضلية، في حين غابت فئات الشعب الفلسطيني ومكوناته السياسية والفكرية والاجتماعية، ولم تتمثل التيارات الأخرى أو الشخصيات المستقلة إلا بالقليل الذي لا يكاد يذكر، ومن شارك منهم لم يكن لهم دورٌ حقيقي ينافس، ولا مشاركة تعادل، أو مساهمة توازي دور الأغلبية، وقد شعر بعضهم بالغربة والإقصاء، والتغييب والتهميش، مما دعى بعضهم إلى العزوف والانكفاء، وخفوت الهمة واستعجال العودة.
كما شَابَ عملية الانتخاب بكل مستوياتها عيوبٌ كثيرة، يمكن الطعن فيها وإن كانت لا ترقى إلى إلغاء النتائج وعدم الاعتراف بها، فقد تشكلت قوائم مسبقة تشبه "الكوتات" والحصص المناطقية والشخصية المنظمة، طغى فيها التأثير على الناخبين وتوجيههم، فيما تم فرض التوافقات الخلفية بتسمية وفرض أسماء محددة، قد لا يعرفها أغلب المشاركين، مما حَدَّ من حق الناخبين في الاختيار السري الحر، وأشعرهم بأن التسويات معدة، والتشكيلات منظمة، وأنه لا دور لهم سوى القبول والموافقة، برفع الأيدي أو بالتصويت السري المعروفة نتيجته.
أما المنسقيات الممثلة لدول اللجوء والشتات، فلم يكن بينها توازنٌ واعتدال، أو تمثيلٌ حقيقي لفلسطينيي الاغتراب، فقد مَثَّلَهَم من حضر من الدول، وقد كان بالإمكان دعوة غيرهم أو انتقاء سواهم، حيث فرضت القلة والمحدودية في الحضور تسمية من حضر بالتزكية ممثلين عن مناطقهم، فيما يشبه التعيين وتعبئة الفراغ، وقد كان حرياً مراعاة دعوة كل الساحات بما يضمن التنافس الحر والتمثيل العادل والشامل.
كما فقد المؤتمر دوره الحقيقي الذي انطلق من أجله، وتشكل أساسه، فقد أريد له كما بينتُ سابقاً، أن يكون برلمان الفلسطينيين في الخارج، وأن يناقض القضايا الوطنية والهموم الشعبية ومستقبل القضية الفلسطينية، لكن ما أظهرته حصيلة السنوات الأربعة الماضية، وفقرات الانعقاد الثاني، أظهرت المؤتمر وكأنه جميعة خيرية، أو مؤسسة منظمة ترعى الإبداعات وتشجع المبادرات، وتنظم الاحتفالات، وتنسق للقاءات، وقد كان حرياً بؤتمر به أن يكون صنواً للمجلسين الوطني والمركزي الفلسطيني، وأن يقوم مقامهما في الخارج، ويناقش القضايا التي أصدرا فيها قراراتٍ مصيريةٍ تتعلق بمستقبل الشعب الفلسطيني وقضيته، ولكن الحقيقة أن المؤتمر تخلى عن مهمته، واستبدل دوره بأدوارٍ شكليةٍ قد يستطيع القيام بها غيره من المؤتمرات والمؤسسات والجمعيات.
وقد كان من الممكن أن يكون لمؤتمر فلسطينيي الخارج دورٌ كبيرٌ وتأثيرٌ واسعٌ على مستقبل القضية الفلسطينية، وهو مهيأٌ للعب هذا الدور والتميز به، بالنظر إلى الحرية التي يتمتع بها فلسطينيو الخارج، وتنوعهم الكبير وانتشارهم الواسع، وخبرتهم العميقة وتجربتهم الطويلة، فضلاً عن حرصهم وصدقهم، وإخلاصهم ووفائهم، وقدراتهم وإمكانياتهم، واستقلالهم وحريتهم، مما يؤهلهم لأن يجعلهم أفضل رسلٍ لقضيتهم، وأبلغ سفراء لشعبهم، وأصدق روادٍ لأهلهم.
رغم الملاحظات التي سبقت، والعيوب التي ظهرت، والعوار الذي طرأ، إلا أن فكرة المؤتمر رائدة، ومستقبله واعدٌ، ودوره مطلوب، ومهامه كثيرة، وقدراته كبيرة، مما يفرض علينا الاهتمام به أكثر، والحرص على التمثيل الأوسع، ليكون الأشمل والأصدق، والعمل على تطويره وتحسين دوره ليكون الصوت الأعلى، والضمير الأنقى، والجهد الأسنى، والمؤسسة الأبقى، والتمثيل الأسمى والمثال الأندى للشعب الفلسطيني كله.