ماجد الشيخ
لا يبدو أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب، يملك كل زمام أمره إزاء القضايا السياسية والدبلوماسية وتفاصيل العلاقات الدولية والقرارات في شأنها؛ فهو منذ بداية عهده داخل البيت الأبيض، أمل أو توقع بأن يصبح كل ما يريد أن يتفوّه به لفظا، وما حلم ويحلم به أمرا واقعا، يأمل، وإن من دون أية مصداقية، أو أدنى جهد، أن يصبح لكلامه، هو من دون غيره، سمة السياسة أو الدبلوماسية الخاصة بشخصه؛ وهذا في حد ذاته خروجٌ على التقاليد المؤسّسة التي طبعت طابع المؤسسة الأميركية، وجعلت منها "فاعل القيادة العالمية"، ودليل انغماسها في قضايا المجتمع الدولي؛ وذلك على عكس ما يقود ترامب الآن سياسة الانعزال الأميركية، في مرحلةٍ من الأفول، أفول القوة الأميركية، وهي تشهد انسحابا من "قيادة العالم"، تتويجا لعهد من العزلة تحت يافطة تقول إن مصالح "أميركا أولا" الترامبية، باتت هي "الحقيقة الساطعة" الموجهة لسياسات الانعزال، المعادية لكل مصالح الآخرين، باستثناء إسرائيل، الكيان الاستعماري القائم على احتلال وطن الشعب الفلسطيني، واتباعه نظام الأبارتهايد، ذات المرجعيات العنصرية، والقوانين الدستورية التي أضحت تنفذ بها تلك السياسات والتشريعات، القائمة على قاعدة مرجعية "قانون القومية" الأكثر رجعيةً وتخلفا من بين القوانين الفاشيّة التي شهدها عالمنا المعاصر، منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية.
هذه السياسة الترامبية، الآخذة بالتبلور، تحت عنوان صفقة القرن، التي لم تجهز بعد، ولم تتضح معالمها؛ وإن بدت وتبدو إسرائيلية قلبا وقالبا؛ منذ طرحها ثلاثي ترامب (المستشار جاريد كوشنر والمبعوث غرينبلات والسفير فريدمان)، الثلاثي الذي يعد الساعد الأيمن والحارس الأمين، القائم على تنفيذ سياسة تسوية مجحفة في المنطقة، بالاشتراك مع وضع إقليمي هشّ ومهترئ، تنعدم لدى أطرافه أي رؤية خاصة أو مستقلة عن الارتباط التبعي بأصحاب الصفقة وزعيمها الأوحد، وهو يؤسّس لاستبداد إمبريالي خاص، بنكهة عقارية ترامبية أكثر زبائنية من كل قوانين الزبائنية وتقاليدها في العالم.
ما قاله ترامب في نيويورك في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وعلى هامش لقاءاته
"جرى تبديد "حل الدولتين" على مذبح "أوسلو" والمماطلات والتأجيلات والتبريرات" مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وبعض زعماء العالم، لم يكن متوقعا، تماما كما لم تكن سياساته متوقعة منذ البداية، فالعمل على ما تسمّى "صفقة القرن"، منذ بدء الحديث عنها، يتناقض تماما مع ما يعد به الآن، من "إبداء سعيه إلى تسوية النزاع على أساس (حل دولتين)، على أنه الحل الأمثل"، في حين سعى ترامب بداية إلى مجاراة الإسرائيليين، إلى إفقاد "حل الدولتين" كل شروطه الممكنة، حين صمت عن الاستيطان الزاحف نحو أراضي ما يفترض أنها الدولة الفلسطينية، وجرّد القدس، مدينة وعاصمة تاريخية لفلسطين، من كل ما يربطها بالشعب والتاريخ والإرث التاريخي للفلسطينيين في وطنهم التاريخي، ونزعها منهم ليحوّلها "عاصمة تاريخية" لما سماه "الشعب اليهودي"، ونقل سفارة بلاده إليها كونها كذلك، بينما رقص طربا لإقرار "قانون القومية" وما قد يستظل به من سياساتٍ فاشيةٍ وقوانين أبارتهايد عنصرية، قد تقود، في وقت ما، إلى إقرار سياساتٍ تهجير للذين بقوا في وطنهم، وفي قسم من ممتلكاتهم التي آلت، في معظمها، وفق "قانون أملاك الغائبين"، إلى القائم بالاحتلال الكولونيالي الصهيوني منذ العام 1948. وهو اليوم يحاول انتزاع حق العودة بقتل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، وهي شاهد على النكبة، وعلى تشريد أبناء النكبة بتوزيعهم وتوطينهم في أصقاع العالم.
لا قيمة للوقت، في ذهن ترامب المشوّش والمضطرب، ولا قيمة للانسجام والتماسك على سياسةٍ واضحةٍ لا يمكن نقضها بسهولة اللعب على حبال الوهم والاستيهام، فالرجل ينطق عن الهوى، لا عن سياساتٍ مؤسسيةٍ لدولة كبرى، فقدت معها كثيرا من احترامها، ومن قوتها وقوة التزامها بما تفترضه "القيادة العالمية" من مصداقية وثقة المجتمع الدولي وشعوب أمم العالم؛ ولا سيما أن انحيازها التوراتي لإسرائيل وأهدافها التوراتية لا يجعل منها وسيطا نزيها ومقبولا، ولا "فاعل خير" إلا لمصلحة من اختارته حليفا موثوقا ومقبولا، على الرغم من كل ما قد تقدم عليه حكومة اليمين المتطرّف ضد الفلسطينيين، وإلا ما الفتات الذي يريد من إسرائيل أن تقدّمه للطرف الآخر (الفلسطيني) وفق خطته المسمّاة "صفقة القرن" الأقل من دولة، والأقل حتى من حكم ذاتي محدود الصلاحيات، على جزء أقل بكثير من الـ22% من النسبة التي وُعد الفلسطينيون بها وفق اتفاقي أوسلو، اللذين جرى نقضهما عمدا، ولم يعودا يمثلان أي طموحٍ لتحقيق دولة للفلسطينيين موعودة وقد جرى وأدها، على الرغم من ادّعاءات خطاب نتنياهو في جامعة بار إيلان في العام 2009، حين وعد كذبا التزامه "حل الدولتين"، وها هو ترامب يعد كوعد "بار إيلان" الذي سبق لنتنياهو وتنصل منه وكأنه لم يكن؛ وعلى خطاه يعد اليوم ترامب، ولسوف يتنصّل منه كذلك وكأنه لم يكن.
وردا على "دولتي" ترامب، ذهب وزير جيش الاحتلال، أفيغدور ليبرمان، في جولة له على الحدود الشمالية مع سورية، للقول "لا تعنيني الدولة الفلسطينية، ما يعنيني هو الدولة اليهودية". بينما أعلن نتنياهو أن تصريحات ترامب أن "حل الدولتين هو الأفضل" لم تفاجئه، موضحا أنه "مستعد لأن تكون للفلسطينيين صلاحيات لحماية أنفسهم من دون أي صلاحيات تهددنا. باستثناء غزة"؛ لكن الوضوح الأكبر كان من نصيب رفض أي سيادة أو اتصال بين الفلسطينيين والأردن، حين أعلن نتنياهو أن "السيطرة الأمنية من غرب الأردن إلى البحر المتوسط ستبقى تحت أيدينا. وذلك لن يكون مادة للنقاش طالما أنا رئيس للوزراء، وأنا واثقٌ بأن أي خطة أميركية للسلام ستؤكد هذه المبادئ"، فأي دولة للفلسطينيين يمكن أن تقوم وعلى أية مساحة؟
هنا مربط فرس "حل الدولتين" الذي جرى تبديده على مذبح "أوسلو"، والمماطلات
"لم يبق للدولة الموعودة ما يمكّنها من العيش: دولةً سياديةً مستقلة" والتأجيلات والتبريرات الواهية للمفاهيم، وفقدان معظم التفسيرات والتأويلات لما تم الاتفاق عليه في الاتفاقين، ولما جرت "تسويته" لاحقا، وكله كان يصبّ في المصلحة الإسرائيلية قلبا وقالبا، وفي الغالب الأعم. إضافة إلى ما شهدته ما يفترض أنها أراضي الدولة الفلسطينية، من تمدّد الشره السرطاني للاستيطان الزاحف. الأمر الذي لم يبق للدولة الموعودة ما يمكّنها من العيش دولةً سياديةً مستقلة حقا؛ فوهم المفاوضات، في مطلق الأحوال، لن ينتج معادلة أخرى، غير معادلة الحكم الذاتي محدود الصلاحيات، في ظل ارتباطٍ تبعي اقتصادي وإداري، محكومٍ لتنسيق أمني محكم، وكل هذا يحوّل الحكم في "الكيان الجديد" إلى سلطةٍ تابعة، لا تملك من أمرها رشدا، وهذا ما يدركه نتنياهو تماما، حين أشار إلى حديثٍ جرى، في لقاء جمعه مع ترامب، ومستشاره جاريد كوشنر، مشيرا إلى تصريح للأخير، جاء فيه "الجميع يفسّر كلمة دولة بشكل مختلف"، وعلّق نتنياهو قائلا "أنا منشغل في الماهية وليس الكيفية. السؤال هو ماذا ستكون هذه الدولة؟ إيران أم كوستاريكا. توجد خيارات عديدة". فأي الخيارات يختار الفلسطينيون وقيادتهم المأخوذة بسحر الكلمات، منذ وعد اتفاق أوسلو بالدولة بعد السنوات الخمس من بدء سريانه؟ وبعد انفضاح ما انفضح من تبديد قوة الانتفاض، والعمل الجماهيري، والفعل المقاوم، والركون فقط إلى تشغيل آليات الارتباط التبعي، على حساب تشغيل آليات العمل الشعبي المقاوم الذي بات اليوم مرذولا يعيش مطاردة مزدوجة من الاحتلال ومعاونيه من تنسيقيي ما أضحى "مقدّسا" في نظر عبيد "أوسلو" وعبّاده.