بقلم: محمد حسن حميد
تجتاح العالم منذ نهاية القرن الماضي تطوراتٌ تكنولوجيةٌ هائلة في مجال الاتصالات، والتي بدأت بالأقمار الصناعية متعددة الاستعمال، وصولاً إلى محركات البحث المتنوعة وانتهاءً بشبكات التواصل الاجتماعي بمسمياتها المختلفة على شبكة الانترنت والتي يتابعها ملايين من سكان المعمورة يومياً.
وتدرُّ هذه الشبكات أرباحاً طائلة على مالكيها من عائدات الإعلان التي يتم توظيفها بشكلٍ كبير بغرض تحقيق أقصى عائد ممكن للربح. كما أن هذه المجموعات تعتبر من عناصر القوة الناعمة الأميركية التي تفرض فيها هيمنتها على العالم من خلال غزوٍ ثقافيٍ عبر شبكات التواصل الاجتماعي وأفلام السينما والمسلسلات وكافة عناصر قوتها الإعلامية والثقافية.
ومما لا شك فيه أن هذه الثورة التكنولوجية قد قدمت للبشرية خدمات علمية وثقافية جليلة، حيث تتيح للجميع مزايا فريدةً لم يكن ليحلم أن يصل إليها، كما أحدثت هذه الشبكات الاجتماعية ثورة في عالم الاتصالات، فتمكن المستخدمون من التواصل هاتفياً ومن خلال الصورة مجاناً، بل وأصبحت الفرصة متاحةً لعقد اجتماعاتهم الكترونياً دون حاجةٍ لأي مصاريف انتقال. إلا أن هذه التطورات قدمت في شقها السلبي مجموعةً من المحاذير الأخلاقية والثقافية والاجتماعية والتي تسللت في إطار هذه الجلبة العالمية التي صاحبت الثورة التكنولوجية، وذلك راجعٌ إلى غياب كثير من العادات والتقاليد عن فضاءات هذه الشركات الأميركية ومحركات بحثها، وهو أمر ينذر بنتائج وخيمة على الحالة الفكرية والثقافية للجيل الناشئ إذا ما أغفلت هذه الآثار.
بل إن محاولات بسط الهيمنة الثقافية الإمبريالية من خلال هذه الوسائل قد دفعت صناع القرار في هذه الوسائل ومحركات البحث إلى تبني سياساتٍ تحارب المحتوى الإسلامي والعربي المناوئ للسياسات الاستعمارية، فأصبحت هذه الوسائل وقفاً على خدمة هذه الأفكار الاستعمارية والتنظير لها، وأمست سيفاً مسلطاً على المحتوى الإسلامي والعربي المقاوم، وهو أمرٌ يستدعي يقظةً إسلامية وعربية أمام هذا التطرف، فما ضرّ المسلمون لو قاطعوا هذه الوسائل والشبكات أسبوعاً أو أكثر تعبيراً عن رفضهم للسياسة المتبعة من قبل هذه الشبكات.
والأمر الأكثر خطورة أن شبكات الانترنت ونظم المعلومات قد أضحت أحد ساحات المعارك الخفية بين القوى المتصارعة، وهو ما يشمل حالتنا الفلسطينية والعربية والإسلامية التي تعاني من تهديد اختراقات الاحتلال للخصوصية ومحاولات اختراق المقاومة، فعدونا الأميركي وعدونا الصهيوني يرصدان مبالغ كبيرة في سبيل تطوير أمن السايبر، ويعتبران أن هذه الساحة الافتراضية ساحة تفوق بالنسبة لهما، وهو ما يستدعي فينا أن نركز جهودنا على حماية أمننا وخطوط اتصالنا وتطوير شبكاتنا بما نواجه به هذا العدو الباغي.
ومن بعض الجوانب السلبية التي لا زالت تضفو إلى السطح نتيجة الاستخدام الخاطئ لهذه الوسائل التكنولوجية المتقدمة، هو ما يقدم عليه عددٌ كبير من نشطاء وسائل التواصل الاجتماعي –متغافلين كوننا مجتمعاً مقاوماً ومرابطاً في عمومه- من تطوعٍ في الحديث عن أماكن عمل المقاومة وأنواع عتادها وأسلحتها وأسماء المجاهدين وتداول هذه المخرجات بيسرٍ ورعونة غير معتادةٍ بما يمكن أجهزة أمن العدو من استقاء كمية معلوماتٍ خصبةٍ عن ظروف المجتمع من الناحية العسكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية دون بذل عناء تجنيد أعين بشرية ودون تحمل الأعباء المالية المصاحبة لاستخدام وسائل التجسس المتقدمة، بحيث تقدم لها وسائل التواصل الاجتماعي مصدراً مجانياً ومريحاً للمعلومات التي يحتاجها، فمن الأهمية بمكان أن يتم توعية الأفراد بسوءات وسائل التواصل الاجتماعي في إطار مقاومتنا لعدونا الغاصب، ويكون ذلك عبر عقد دورات توعوية لمعرفة آلية استخدام العدو لهذه الوسائل في سبيل بحثه المعلوماتي عن قدرات وإمكانات المقاومة والتعرف على مشاكل حاضنة المقاومة (الجمهور) من الناحية الاقتصادية والاجتماعية.
وعلى الصعيد الاجتماعي، فإن الحكمة الكامنة في ابتكار هذه التطبيقات الشبكية متمثلةٌ بالرغبة في تعزيز عملية التواصل الاجتماعي بين الأفراد، وبشكل أخص أولئك الذين يكابدون ضيقاً في الوقت ناجماً عن ضغط العمل، فأتاحت لهم إمكانية التواصل والاطمئنان على أصدقائهم وأقربائهم ومعارفهم في رحى حياتهم العملية، ولكن الناظر إلى استخدام الكثيرين لهذه الوسائل يجد أنها تحولت عن هذه الغاية آنفة الذكر مرتديةً عباءة التحاسد والتدابر والتشاحن والبغضاء بين أطرافها، فأضحت –في بعضٍ من ميادينها- مستنقعاً متدني المستوى يُنْفَث فيه مخلفات أمراض القلوب، هذا الطوفان المضطرب لم يستثن من تأثيره فئة النخبة والفئات المثقفة في المجتمع، فأضحت منصات البعض منهم على وسائل التواصل الاجتماعي مسرحا لبث الشائعات وتبني الروايات المضللة دون تثبت إلى الأمر الذي حذا بهم إلى نعي افتراضي لشخصيات غير موجودة في الحياة الواقعية!
هذه الملاحظات على وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها لم تدع المجال السياسي وحسبه، بل أضحت ميداناً لسفاهاتٍ كالسفاهة المسببة لحرب البسوس، فأصبح من السهل أن تخط أنامل أحد الأشخاص الحاملين لجنسية دولةٍ ما ذماً ونقيصةً وسخرية وتهكماً بحق شعبٍ ما بما يثير قلاقل وردود فعلٍ شعبي وموجة غضبٍ عارمةً تجاه الشخص وشعبه الذي يؤاخذ بجريرته الأمر الذي ينتج عنه سجالٌ متبادل يدوم فترةً من الزمان، إننا بحاجةٍ إلى إعادة تنظيم استخدام هذه الوسائل المتقدمة من خلال عملية ضبطٍ تربوي شاملة تشترك فيها البيوت والمدارس والجامعات والمساجد وذلك عبر مساقاتٍ منهجيةٍ وغير منهجية تأخذ بعين الاعتبار الجوانب الشرعية والقانونية والاجتماعية لهذا الاستخدام الخاطئ لهذه الوسائل مع أمثلةٍ عمليةٍ تطبيقية على ما أنتجه هذا الاستخدام المتردي من أزماتٍ بين الدول الصديقة والدول ذات الدين الواحد واللغة الواحدة، وغيرها من النماذج المختلفة.