بقلم: ثائر أبو عياش
حكاية ناصر أبو احميد المُلقّب بـ"الأسد المقنّع" بدأت مع الانتفاضة الأولى في عام 1987، قام ناصر بتشكيل مجموعات للاشتباك مع الاحتلال ومستوطنيه، ليصبح بعد ذلك مطارد ويتم اعتقاله في عام 1990 ويحكم عليه بالسجن المؤبد، وبعد توقيع اتفاق اوسلوا تم الافراج عنه في عام 1994 بعد توقيع اتفاق القاهرة، إلا أن ناصر كان يعلم أن المعركة هي جدوى مستمرة ولذلك بعد الافراج عاد لنشاطه في مواجهة الاحتلال في الانتفاضة الثانية، وليعتقل من جديد عام 2002 ويحكم عليه بالسجن سبع مؤبدات وثلاثين عامًا.
مثل كل مقارع للاحتلال داخل السجن وخارجه كان يحمل أبو احميد في قلبه مسطره ليقيس طول المعركة وكان يعلم أن هذه المعركة خصوصاً داخل السجن تحتاج إلى نفس طويل، ممارساً شعار حكيم الثورة د. جورج حبش: "إنّ الصراع مع الصهيونيّة قد يستمّر مائة عامٍ أوْ أكثر، فعلى قصيري النفوس التنّحي جانبًا"، وفي عقله أيضًأ كان يحمل ميزان ويقوم بتوزين النتائج، وكانت النتيجة الأهم "ليس أن نحرز النصر دائماً المهم أن نحارب دائماً".
في سجن عسقلان وبالتحديد في عام 2010 تعرفت على الأسير ناصر أبو احميد عن قرب، وأدركت تماماً أن هذا الرجل يفهم أن المقارع للاحتلال ربما يصعد إلى الشجرة في بعض الاحيان، ولكن البراعة تكمن في النزول عن الشجرة دون أن يرغمك الاحتلال على ذلك، أنت الذي عليك أنت تختار وقت النزول، وإذا قررت البقاء فوق الشجرة عليك أن تتعلم الصمود والعيش فوق الشجرة.
ضمن اتفاق مع مديرة القسم الذي نعيش فيه وهو القسم الذي يحمل رقم "5"، توصل الأسير أبو احميد كممثل لسجن عسقلان أن يتم تبديل الفرشات التي ينام عليها الأسرى لآنها موجودة منذ عقد التسعينات، وكان الاتفاق يقول: أن يتم إخراج الفرشات القديمة أمام أبواب الزنازين وتأتي إدارة السجن بالفرشات الجديدة ويتم تبديلهم.
عقدت مديرة القسم هذا الاتفاق دون الرجوع إلى مدير السجن، وبشكل مفاجئ جاء المدير زيارة إلى الأقسام ووجد الفرشات القديمة أمام الأبواب وعندما سأل مديرة القسم ما الذي يحدث؟ لم تفصح مديرة القسم عن الاتفاق بل قالت: أن الأسرى تمردوا وقاموا بإخراج الفرشات، وهذا ما جعل مدير السجن بالبدء بقمع الأسرى في قسم "4"، وبعد ذلك البدء بقمع قسم "5" الموجود فيه الأسير ناصر أبو احميد.
كانت زنزانة ناصر أبو احميد تحمل الرقم "25"، وشاهدت عن قرب ماذا فعل أبو احميد عندما تم اعلامه بالخبر، مباشرة تواصل عبر شباك الزنزانة مع جميع الغرف وحثهم على الهدوء، وطلب من أحد السجانين مقابلة مدير السجن، وعندما خرج للمقابلة وقف على شباك الزنزانة التي أمكث فيها والتي تحمل رقم "26" وقال لنا: لقد صعدت الإدارة على الشجرة ولن اسمح لها بالنزول إلا بشروط الأسرى، وقبل أن يتم نقاش القمع الذي يحدث يجب أن يعود جميع الأسرى الذين تم قمعهم إلى الغرف، ويجب تبديل الفرشات حسب الاتفاق، وبعد ذلك يتم النقاش مع الإدارة، وهذا بالفعل ما حدث عندما ادرك مدير السجن أن هناك اتفاق مع مديرة القسم.
يقول "غرامشي" في رسالته المؤرخة بتاريخ 12 ديسمبر 1927 إلى أمه من السجن: "أن السجن أيضاً يعتبر وسيلة للمواجهة، إن لم يكن وسيلة للترفيه أو على الأقل ضرورة، بحكم أنه لا يخيفني كفرضية ولا يحبطني كواقع"، وهكذا يفهم الأسير ناصر أبو احميد السجن كساحة داخلية للمواجهة مع الاحتلال، وهذه الساحة تحتاج إلى الوقت والصبر من أجل تحقيق الانتصارات عليها، بالإضافة إلى أنه كان يدرك تماماً أن السجن لا يمكن أن تنتصر فيه واليأس يقتل الأمل بداخلك كإنسان.
يواجه الأسير ناصر أبو احميد اليوم احتلال من نوع أخر وهو مرض "السرطان، واعتقد أن ناصر يفهم تماماً ماذا يعني هذا المرض، هو تعبير آخر عن الموت، وهذا يعني أن ناصر يواجه الموت وجهاً لوجه، ولكن كان يمكن أن تكون عائلته بجانبه، ولكن الاحتلال كعادته يحرم الشعب الفلسطيني من اللحظات الإنسانية، فهو يحرم هذه العائلة من تمارس المناسبات الاجتماعية مثل الاعياد، ورمضان، وحفلات الزواج...
وكان الممكن أن تكون أيضًا أمه تقف على رأسه وتسانده ولكن جدران السجن حرمتها من ذلك، تلك الجدران التي شيدها أولئك الذين قتلوا بؤسهم على حساب احياء بؤس جديد، إنها جدران ليست كجدران برلين، ولا جدران سور الصين العظيم، بل جدران من نوع أخر إنها جدران الاستبداد والقهر والظلم والطغيان.
إن هذه الأم تعيش قصة عشق سرمدية مع طفلها لذلك وجدت نفسها تعيش الألم معه كحقيقة لا كوهم، تخاطرت معه وتعرضت لعدة وعكات صحية، كانت الوعكات محاولة للتعبير عن الحزن والأصعب أنها تعبير عن الفقدان، وحدة الفقدان الذي كان ومازال ينهش قلب هذه المرأة، كانت هذه الأم تحاول أن تأتي للفقدان من زاوية أخرى تراوغه وتقول: غداً سيعود ناصر ومعه أشقائه من السجن، ولكن الفقدان أصبح صديق الاحتلال والأخير قال لصديقه: عليك أن تظهر وجهك الحقيقي.
تمر الأيام، وتتلاشى السنين، ويمشي ناصر أبو احميد وهو يدرك أن الخوف يمنع الانتصار ولكنه لا يمنع الموت، فهو يدرك أن الوقوف على ناصية المقاومة يعني الاستعداد لكل خيار، أرتطم أبو احميد بالجدار الذي كان يخاف منه الذين تعايشوا مع الاحتلال، يدرك ناصر أن هناك فرق بين أن تهدم أنت الجدار وبين أن يهدمك الجدار.
كل الكلمات التي كتبت والتي من الممكن أن تكتب هي أضعف الايمان بقضية الأسير أبو احميد، وبالنسبة لناصر تعتبر اللكمات سهله، هو وحدة يلامس طرف الألم قبل أن ينغمس فيه حتى الثمالة، ومع كل حبة دواء يحاول فيها تخفيف الوجع يدرك تلك الحقيقة ليس مهم أن تكتبوا المهم أن تشعروا معي حتى تحافظوا في زاوية ما على الإنسانية بداخلكم.
في عام 2017 خاض الأسرى اضراب عن الطعام، وفي اليوم ""34 أرسل ناصر أبو احميد رسالة يقول فيها: "لا زلنا نطرق أبواب الزنازين، وما زلنا نتنفّس الحرّية والكبرياء، نسير إلى الموت مبتسمين، ونتربّع على بطانية سوداء هي كل ما تركوه لنا حول كأس ماء وقليل من الملح، نغنّي للوطن ولربيع الانتصار القادم، عن أجسادنا لا تسألوا فلقد خانتنا وتهاوت منذ أيّام، أمّا عن أرواحنا وإرادتنا نطمئنكم فهي بخير، صامدون كما الصّخر في عيبال والجليل، أقسمنا اليمين على أن نواصل حتى النّصر أو الشهادة، وعاهدنا أرواح الشهداء ألا تكون هذه المعركة إلا شمعة انتصار نضيئها بأرواحنا وأجسادنا على درب الحرية والاستقلال".
لنقرأ هذه الرسالة "رسالة الحرية" نحن الذين بالخارج لنجد إجابة على السؤال الذي يقول: "ماذا سنفعل بدون الحرية؟"، ولنعرف أن أبو احميد رفض الخروج من مربع الثورة والدخول إلى مربع البدائل، وإن ناصر إذا كان يريد أن يكتب وصية سيكتب عن الحرية لأن الحرية هي المحك بالنسبة له ولكل أسير فلسطيني.