بقلم : د. وليد القططي
"عندما أُقاتل في سبيل الحرية طوال حياتي فإنني سأموت إذن رجلاً حراً.. إنَّ الرجولة كامنة في الروح وليس في الجسد.. إنَّ الحرية بذرة لا تنمو بالماء، وإنما بالدماء وحدها تنمو وتترعرع، ولذلك نبذل دماءنا.. فالحرية ليست كعكة تهبط من السماء فنبتلعها، ولكنَّ الحرية قلعة لا بد أنَّ نقتحمها بأسيافنا.. إنَّ أنهاراً من الدموع والدماء ستسيل.. ويوماً ما سنرى الحرية". هذا النص جاء على لسان بطل رواية (الحرية أو الموت) للأديب اليوناني الكبير (نيكوس كازانتزاكيس).
نيكوس زار فلسطين ومكث فيها عامي 1926 – 1927م موفداً عن صحيفة يونانية، وكتب في نهاية رحلته كتاباً بعنوان (رحلة إلى فلسطين) أُعتبرت أخطر وثيقة ضد الصهيونية كتبها روائي ومفكر عالمي، سجّل فيها بحدسه النبوئي المُبكّر الكوارث التي ستحل بالشعب الفلسطيني نتيجة لوعد بلفور وما ترتب عليه من هجرة واستيطان يهودي في فلسطين نظمته الحركة الصهيونية بدعم بريطانيا زعيمة الغرب الاستعماري آنذاك التي توّلت مسئولية غرس الكيان الصهيوني في قلب الوطن العربي والأمة الإسلامية.
وبالفعل حلّت الكوارث الكبرى بالشعب الفلسطيني كما تنبأ نيكوس، فنهض الفلسطينيون مُقاتلين من أجل حريتهم حتى الموت شهادة، مُستلهمين فلسفة الجهاد في الإسلام كما لخصها الشيخ عزالدين القسام قبل استشهاده بقوله: "هذا جهاد نصر أو استشهاد"، وبرز من بينهم أبطالاً رموزاً قاتلوا من أجل الحرية بروح الشهادة، منهم من قضى نحبه رجلاً حراً شهيداً، ومنهم من ينتظر رجلاً حراً شاهداً، وهشام أبو هواش من هؤلاء الأبطال الرموز الذين يعيشون الحرية بروح الشهادة.
هشام أبو هواش انتصر على جلاديه وقهر سجانيه، ودك مسماراً في نعش الاعتقال الإداري، ووضع الاحتلال وأساليبه القمعية في قفص الاتهام مُجدداً، وسطّر صفحة جديدة ناصعة من صفحات النضال الوطني الفلسطيني، وأضاف نجمة ساطعة في سماء الحركة الوطنية الأسيرة، وقدّم نموذجاً مُشرّفاً لنهج المقاومة، وأعطى مثالاً حياً لخيار الجهاد الذي ينتمي إليه، وأثبت مُجدداً أنَّ الجوع المناضل يقهر بطش السجّان، وأنَّ الوجع المكافح يكسر غطرسة الطغيان، وأنَّ الألم المقاوم ينتصر على سوط الجلاد.
هشام أبو هواش أدرك أنَّ الإنسان حرٌ طالما أنه يمتلك إرادة الكدح لانتزاع الحرية، وأنَّ الإضراب عن الطعام نوع من الكدح يقوم به أولو العزم من الأحرار الذين يمتلكون إرادة النصر، وضرب من الجهاد ينهض به أصحاب القوة من الثوار الذين يدركون فلسفة الصمود... فتخرجُ إرادة النصر وفلسفة الصمود من الإنسان أسرار عظمته، فيصنع من جوعه حريته، ومن وجعه عزته، ومن ألمه كرامته، وهي من حرية وعزة وكرامة شعبه، ومن يفعل ذلك يُصبح إنساناً حراً حتى لو غيبّه السجن أو القبر.
هشام أبو هواش عبّر بإيمانه ووعيه وتمرده عن السر الكامن في فلسفة المواجهة مع الاحتلال الصهيوني، المستندة إلى نهج الجهاد والاستشهاد، وطريق المقاومة والنضال، خيار الأمة الوحيد في هزيمة أعدائها وأعداء الإنسانية، وأنَّ هذا الخيار رغم تكلفته العالية، وثمنه الباهظ، وصعوبته البالغة... أهون من نار الذل، وجحيم الهوان، ولهيب الضيم، الذي يكون مصير الأمة فيما لو تخلَّت عن نهج الجهاد وطريق المقاومة، فما تركت أمة الجهاد إلاّ ذُلّوا. وما ركن شعب لظالميه إلاّ هانوا. وما خضع قوم للاحتلال إلاّ اُستعبدوا.
هشام أبو هواش علم أنَّ الحرية صبر ساعة، تحتاج إلى عزيمة الأحرار وصلابة الثوار، وأنَّ إضرابه عن الطعام حتى حافة الشهادة ليس إلقاء بالنفس إلى التهلُكة – كما يقول المرجفون – بل ارتقاء بالنفس إلى العُلا وسمو بالروح إلى السماء، وأنَّ جوعه جهاد وموته شهادة، ومن ينأى بنفسه عن الجهاد والشهادة هو الذي يُلقي بنفسه إلى التهلُكة، ويرضى لشعبه أن يُلقى في مهاوي الردى.
ألم يأنِ للذين آمنوا بأمريكا ورضوا بأنَّ يكونوا من الخوالف مع الخانعين والمطبعين والقاعدين أن فلسفة الحرية هي التي صنعت انتصاراتنا وحضارتنا ومجدنا، وصعدت بالأمة إلى قمة التطور وذروة التقدم. وأنَّ فلسفة العبودية هي التي صنعت هزائمنا وتخلفنا وهواننا وهوت بالأمة إلى قاع التأخر وحضيض التخلّف، فشتّان بين ثرى العبودية وثُريّا الحرية .