منذ بداية الأزمة الأوكرانية والولايات المتحدة الأميركية تُهدّد روسيا بفرض عقوبات عليها لمنعها من غزو أوكرانيا، ومعاقبتها إذا غزتها، وشارك في التهديد الأميركي رأس الدولة جو بايدن قائلاً: "إنَّ روسيا ستتحمل المسؤولية، وستواجه عواقب وخيمة وسريعة إذا فعلت ذلك".
العقوبات الأميركية على دول العالم سياسة عدوانية ثابتة ونهج استعماري دائم، برز في الحرب العالمية الثانية ضد كل من يرفض الدخول في بيت الطاعة الأميركي، مثل: كوبا بعد الثورة الاشتراكية بقيادة الزعيم فيدل كاسترو، وإيران بعد الثورة الإسلامية بقيادة الإمام آية الله الخميني، وكوريا الشمالية بعد الحكم الشيوعي بقيادة الزعيم كيم إل سونغ، وفنزويلا بعد انتخاب الرئيس الثوري هوغو تشافيز، وسوريا بعد الحرب فيها وعليها في عهد الرئيس بشار الأسد، والكثير من دول العالم الأخرى، فالعقوبات الأميركية على دول العالم وشعوبها هي أهم أذرع الاستعمار الأميركي الجديد الذي تسكنه روح الكاوبوي.
العقوبات الأميركية، كذراع للاستعمار الأميركي الجديد، عبارة عن مجموعة من الإجراءات العقابية ذات الطابع الاقتصادي في معظمها، تُستخدم كطريقة ضغط، أكثر قوة وتأثيراً من العمل الدبلوماسي، وأقل عنفاً وتكلفة من الحرب العسكرية، تهدف إلى إحداث تغيير في السلوك السياسي للدول المُعاقَبة، وإجبار حكامها وشعوبها على الاستسلام للإرادة الأميركية، وتراوح بين الحظر الاقتصادي الكامل والعقوبات الاقتصادية، وأهم أساليبها: منع تصدير السلع والبضائع، ولا سيما النفط كلياً أو جزئياً، وحظر استيراد الأسلحة والأجهزة، وخاصة الدقيقة والتقنية، وتجميد الأرصدة والأصول المالية في البنوك الأميركية والعالمية، وعزل النظام المالي للدولة عن النظام المالي العالمي، ومنع دخول مواطني الدولة المُعاقَبة إلى الولايات المتحدة، وغيرها من العقوبات التي تطبّقها بنفسها وتفرضها بغطرسة الاستكبار الأميركي المسكون بروح الكاوبوي على من تستطيع من مُستضعفي العالم، بمبررات سياسية وهمية وواهية.
المبررات السياسية الوهمية والواهية التي تسوقها أميركا كغطاء لأهدافها الاستعمارية الحقيقية، هي محاربة الإرهاب وتجارة المخدرات، وحماية المدنيين والأقليات، والدفاع عن حقوق الإنسان والديمقراطية والحريات، وإسقاط حكم الاستبداد والفساد، وإزالة أسلحة الدمار الشامل، ومنع إنتاج السلاح النووي... وهي أهداف في ظاهرها الخير، وفي باطنها الشر؛ ذلك أنها تُستخدم بطريقة انتقائية ومُضلّلة، فيها تزوير للحقيقة، لتُخفي أهدافها الاستعمارية ضد الدول المتمردة على بيت الطاعة الأميركي، فتسعى من خلال تلك العقوبات إلى: تغيير أنظمة الحكم الثورية واستبدالها بأنظمة حكم موالية لها، وتدمير الاقتصاد الوطني الإنتاجي المستقل واستبداله باقتصاد طفيلي استهلاكي مُلحق بها، ووقف تطوير القدرات الاقتصادية والصناعية للدول والشعوب الحرة، ونهب ثروات الأمم وسرقة موادها الخام، ومحاصرة الدول الممانعة للاستعمار الصهيوأميركي وتغيير نهجها المقاوم، وتشجيع النخب المتأمركة على قلب أنظمة الحكم المقاومة، وصبغ العالم بلون الحضارة الأميركية المادية المُهيمنة.
الأهداف الاستعمارية للعقوبات الأميركية مسكونة بروح الكاوبوي، والكاوبوي هم رعاة البقر في مرحلة التوّسع الاستيطاني الأميركي غرباً، متزامناً مع إبادة السكان الأصليين (الهنود الحمر) بوحشية، وقد نُسِجتْ حولهم أساطير تحوّلت إلى أفلام سينمائية عُرفت بالكاوبوي، أصبح أبطالها رموزاً لـ (البطولة الأميركية الخارقة)، وأضحى نمط حياتهم نموذجاً لـ (التميّز الأميركي الفريد)، هذه البطولة والتميّز ترسّخا في الوجدان الشعبي الأميركي، وتجذّرا في فلسفة الدولة وسياستها الخارجية، فمارست الاستعلاء والاستكبار على الآخرين، وكانت العقوبات إحدى ثمرات روح الكاوبوي المُرّة، تلك الروح المُشبّعة بإحساس تفوّق الجنس الأوروبي الأبيض، وتميّز الثقافة المسيحية البروتستانتية، وسموّ مبادئ الثورة الأميركية الديمقراطية، وتشرّب عقيدة شعب الله المختار التوراتية، وهيمنة فكرة التفويض الإلهي الإنجيلية لإنقاذ البشرية.
هذه الروح الاستكبارية الشريرة سمّاها عالم الاجتماع الأميركي سيمور ليبست (الخصوصية الأميركية)، واعتبر "أنَّ القيم والنظام السياسي والتطور التاريخي للولايات المتحدة أمور فريدة من نوعها في تاريخ البشرية، ولذلك يحق لها أنَّ تلعب دوراً قيادياً مميّزاً على المسرح العالمي".
الدور القيادي الاستعلائي لأميركا في العالم عند (ليبست) برّره المؤرّخ الفرنسي المتأمرك ألكسيس توكفيل بأنَّ الولايات المتحدة دولة استثنائية وشعبها متميّز، لأنَّ الثورة الأميركية التي ولدت منها الدولة الجديدة الأولى في العالم تحمل مبادئ وأفكار الحرية والمساواة والجمهورية والديمقراطية والاقتصاد الحُر... لذلك فهي دولة متفوّقة على الدول الأخرى، وتقع على عاتقها مهمة تغيير العالم.
بهذه الروح الاستكبارية فرضت الولايات المتحدة الأميركية العقوبات على كثير من دول العالم، وبهذه الروح الشريرة للكاوبوي الأميركي تمت إبادة ملايين السكان الأصليين في أميركا، وتمّ استعباد ملايين البشر ذوي البشرة السوداء في أفريقيا، وتمّ نهب ثروات الشعوب في شتى بقاع الأرض. وبهذه الروح المسكونة بعُقدة التفوّق ألقى الرئيس هاري ترومان القنبلتين النوويتين على اليابان، وقام جون كيندي بغزو فيتنام، وبدأ جيمي كارتر حصار الجمهورية الإسلامية في إيران، وقصف دونالد ريغان ليبيا، وغزا جورج بوش الابن العراق وأفغانستان، ومارس دونالد ترامب الإرهاب في سوريا، وهدّد جو بايدن بفرض العقوبات على تركيا وروسيا... ولهذا اعتبر الإمام الثائر آية الله الخميني أميركا الشيطان الأكبر، واعتبرها الإمام المرشد علي الخامنئي مع الصهيونية العالمية مركز الاستكبار العالمي والإرهاب الدولي ضد الشعوب المستضعفة.
الشعوب المستضعفة العاشقة للحرية ليس لها أمام غطرسة الاستكبار الأميركي المسكونة بروح الكاوبوي الشريرة سوى المقاومة والصمود، فأميركا لن تغيّر سياستها العقابية العدوانية، ولكنّ الشعوب الحُرّة تستطيع إحباط تأثير العقوبات بامتلاكها إرادة الحياة خارج بيت الطاعة الأميركي، ومواصلة النضال بروح التحدي لمواجهة الطغيان الغربي، وتنفّس عزيمة النصر أمام أعاصير العقوبات الظالمة... هذا هو طريق الخلاص للشعوب التي يُعانقها شوق الحياة، وتحب صعود الجبال؛ أو يُكتب عليها العيش أبد الدهر بين الحُفر.