بقلم: سعادة مصطفى أرشيد
نشطت الدولة المصرية منذ عام 2006، في محاولة ترتيب توافق فلسطيني ـ فلسطيني، وفي العام التالي من أجل عقد مصالحة تنهي الانقسام السياسي والجغرافي، الذي حصل في الحسم العسكري لصالح حركة حماس في غزة، حاورت مصر الأطراف كافة، طيلة عقد ونصف وفي منظور أمني لا سياسي، وهي برغم أنها تشارك السلطة في رام الله في الاصطفاف في محور واحد، إلا أنّ مصالحها الحيوية وحاجاتها الأمنية ترتبط بغزة ومن يحكمها، وفي الحوار الأخير كانت مصر قد طلبت من الأطراف أن تتقدّم كلّ منها بورقة مكتوبة تحدّد رؤاه ومطالبه، ورقة حماس رأت أنّ المدخل الوحيد للخروج من حالة الاستعصاء هو صندوق الانتخابات الشامل والمتزامن، فيما ترى فتح انها تحتاج إلى بعض الوقت قبل الانتخابات، لتتمكن من تجاوز بعض الأزمات الداخلية، ولترميم وضعها الذي أرهقته سواء الحالة في الضفة، كما أزمة السلطة المالية والسياسية .
عدد من الدول أبدت سابقاً وتبدي اهتماماً ملحوظاً بالمصالحة وحواراتها كما تبدي مصر، فقد زار الرئيس الفلسطيني مؤخراً روسيا التي سبقه لزيارتها بدعوة من قيادتها خصمه اللدود محمد دحلان، فيما أدار مساعد وزير الخارجية بوغدانوف حوارات مع الدكتور موسى أبو مرزوق، أبدت موسكو استعدادها للمساعدة في استضافة حوار قد يبدأ في محاولة مصالحة فتح ـ فتح ثم لينتهي في مصالحة فتح ـ حماس، ولاحقاً زار الرئيس الجزائر وتونس حيث تلقى عروضاً مشابهة، وكانت الجزائر هي من اتفق عليه، لاستضافة الحوار قبل نهاية العام .
فهل يمكن لهذه الجهود أن تؤدي إلى نتيجة بعد أكثر من عقد ونصف العقد من الحوارات والمصالحات، استنفذت بها المفردات والحجج والدعوات والأماني، منها ما هو حول ضرورات الوحدة الوطنية ومنها المناشدات بما فيها مناشدات الأسرى ومبادرتهم، كما استنفذت الأماكن بما فيها البيت العتيق بمكة الذي طاف حوله الأطراف الفلسطينية تأكيداً لحسن نواياهم، ولم يكن من مستفيد من كلّ تلك الجهود إلا الاحتلال الماضي في تنفيذ أجندته في غمرة صراعنا الداخلي، وربما شركات الطيران والفنادق التي أقام بها المتحاورون.
عقب معركة الكرامة عام 1968، ارتفعت شعبية التنظيمات المسلحة، فلسطينيا بسبب الانتصار الذي تحقق (مع الإصرار على تجاهل دور الجيش الأردني)، وعربياً حيث رأت الأنظمة العربية وخاصة مصر عبد الناصر في المقاومة ما يعوض من هول هزيمة 1967، فكان أن دعمت تلك المنظمات وسيطرت على منظمة التحرير، ومع اختلاف رؤى التنظيمات وخلفياتها وأيديولوجياتها، إلا أنّ خلافاتها بقيت تحت السيطرة.
الانتفاضة الأولى، أدخلت عنصراً جديداً للساحة الفلسطينية، وذلك حين قرّرت جماعة الإخوان تجاوز دورها الدعوي والانخراط في المواجهة المباشرة مع الاحتلال، واستطاعت ان تفرض وجودها بامتلاكها آليات عمل أكسبتها جمهوراً واسعاً، بحث أصبحت تمثل كفة الميزان المقابلة لتنظيم فتح، ولكن الخلاف في العقيدة وآليات العمل لم تخرج الحالة الفلسطينية من السيطرة.
لكن خرجت الخلافات الفلسطينية ـ الفلسطينية عن السيطرة اثر التوقيع على اتفاق أوسلو، وذلك عندما انفرد جزء من قيادة طرف فلسطيني بالتفاوض والتوقيع على هذا الاتفاق الذي فرض نفسه بقوة الرعاية الدولية الغربية و(إسرائيل)، من هذه البذرة الشيطانية، نمت وترعرعت حالة الانقسام ووجدت رعاتها من رباعية دولية وجهات عربية وما تورّم في جوفها من مصالح وفوائد المتكسّبين على جانبي الانقسام، وكانت حالة السير باتجاه معاكس كلما ابتعدت خطوة تحرق ما وراءها لتحول دون العودة إليها، فأقصى ما يمكن تحقيقه هو إدارة الانقسام أو اقتسام الانقسام، ليصبح كلّ بما لديهم فرحين ومكتفين، وها هي الطريقة التي عمل عليها المصريون للخروج من حالة الاستعصاء، تصطدم بالطرف (الإسرائيلي) القوي، الذي أفرغ النفوذ المصري من أية قوة، الأمر الذي أزّم العلاقة المصرية مع غزة، التي ترى أنّ على المصريين أن يقلعوا عن دور السمسار أو ممثل (الإسرائيلي) الذي يربط إعادة الأعمار بتسليم الجنود (الإسرائيليين) الأسرى لديها.
اليوم تبدي الأطراف الفلسطينية جميعها قبولاً بالدعوة الجزائرية، فهل تملك الجزائر حظوظاً تفوق حظوظ من سبقها؟ علماً أنّ الوضع الفلسطيني والإقليمي قد ازداد تعقيداً وحراجة مرشح للمزيد .
تفيد مصادر جزائرية أنّ الدعوة للحوار كانت بالتوافق مع الرئيس أبو مازن، ولا بدّ من أنها ملتزمة إلى حدّ كبير في رؤاه الأمر الذي لا يضعها في موقف محايد، وتقول ذات المصادر أنّ الجزائر تريد تحرير الفلسطينيين ومصالحتهم ممن يدعون الوصاية عليهم… وأن يكون على رأس أولوياتها فرض منطق مقاومة يهدف إلى تجسيد مبادرة السلام العربية ـ بيروت عام 2002 (مبادرة الملك عبد الله بن عبد العزيز)، والتي تطرح فكرة الانسحاب (الإسرائيلي) الكامل من المناطق التي احتلت عام 1967، مقابل التطبيع الكامل، والسؤال الذي يطرحه المواطن البريء: هل (إسرائيل) التي تتقدّم في التطبيع العربي وتلتهم معظم الأرض الفلسطينية جاهزة لأيّ قدر ولو كان ضئيلاً من ذلك؟ وهل تجديد الالتزام الجماعي العربي تجاه فلسطين ينسجم مع ذلك؟
مشكله الانقسام الفلسطيني ـ الفلسطيني، لم تعد ترتبط بالنوايا والإرادات الطيبة، وهي لم تعد أوراق يتحكم بها الفلسطيني أو الجزائري المضيف، فهذا الملف أصبح بأيد غريبة، وهي من يقرّر في غياب العقل والقلب الفلسطيني، مشكلة الفلسطيني أنّ ملفّ المصالحة وإنهاء الانقسام لم يعد بيده ولا بيد الجزائري ولا بيد من تراهم الجزائر يفرضون ويمارسون وصايتهم على الشأن الفلسطيني، فهذا الملف بيد الأميركي و(الإسرائيلي) أيّ بيد من يريد تعميق الانقسام.
الدعوة الجزائرية لهذه الجولة من الحوار، تمثل حاجة جزائرية في الأساس، وهي ورقة في صراعها مع الجار المغربي، كما هي ورقة مفيدة قبيل القمة التي ستعقد برئاستها في آذار المقبل.
وترغب الأطراف الفلسطينية من جانبها بإرضاء الجزائر، كلّ فريق لحساباته، كما يريد كلّ فريق أن يظهر بمظهر الساعي للمصالحة لا المعرقل لها، قد ينجح الحوار ويصل إلى نتيجة توافقية كما حصل أكثر من مرة، ولكنها ستبقى حالة مؤقتة يتلوها إحباط شديد عندما تعود الأمور إلى حالتها السابقة، ولا أظنّ أنّ هذا الاتفاق يستطيع أن يعمّر زمناً يتجاوز آذار المقبل موعد القمة العربية وذلك على ابعد تقدير، وأكرّر إنْ حصل الاتفاق.
إنهاء الانقسام الفلسطيني لا يحتاج إلى كلّ تلك الحوارات السابقة أو اللاحقة والسفر عبر العالم من موسكو إلى الجزائر وما بينهما من عواصم. إنهاء الانقسام يحتاج إلى إرادة سياسية قادرة على أن تتجاوز وعلى أن تحمل أكلاف الغضب الغربي و(الإسرائيلي)، وقادرة على إخراج من أصبحت مصالحهم تتناقض مع المصلحة الفلسطينية العليا من جوف الحالة الفلسطينية