نعم، منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثّل الشرعي والوحيد للشعب العربي الفلسطيني في جميع الأماكن التي يعيش فيها؛ داخل فلسطين من نهرها إلى بحرها وخارجها، لكنها حتمًا ليست هي هذه المنظمة مسلوبة الإرادة ومشلولة المؤسسات، والتي تعترف الفصائل كلها، بما فيها حركة فتح، بأنها بحاجة إلى إعادة إحيائها من موتها السريري، وإعادة بنائها. ينصّ النظام الداخلي للمنظمة على عقد دورة سنوية لمجلسها الوطني، بصفته السلطة التشريعية لها، والذي ينتخب لجنتها التنفيذية وهيئاتها القيادية، ويراقبها ويحاسبها إذا لزم الأمر، كما يحدّد برنامجها السياسي. ومنذ تأسيسها في مؤتمرها الأول الذي عُقد في القدس، في 2/6/1964، عُقدت عشرون دورة خلال 27 عامًا، آخرها في الجزائر، في 28/9/1991. ولكن منذ توقيع اتفاق أوسلو، أي خلال 30 عامًا، لم تُعقد سوى ثلاث دورات: في 1996 في غزة، وكانت بهدف إلغاء بعض بنود الميثاق الوطني؛ وفي 2009 في رام الله، وهدفت إلى إضافة أعضاء جدد إلى اللجنة التنفيذية بعد أن فقدت نصابها القانوني؛ والأخيرة عام 2018 في رام الله أيضًا. أي إن الدورات كانت بمعدل دورة واحدة كل عشرة أعوام، بدلًا من دورة في كل عام، إذا سلّمنا بصحة هذه الجلسات وشرعيتها.
من المفترض أن المنظمة هي المسؤولة عن السلطة الفلسطينية، لكن السلطة تغوّلت على المنظمة، حتى كادت تنهي وجودها تمامًا، فما عادت سوى راية يُلوَّح بها، وما عاد لمؤسساتها أي فعل ملموس، وما عاد لقرارات مجلسها المركزي في اجتماعاته اليتيمة، والتي تتعلّق بسحب الاعتراف بإسرائيل، وإنهاء اتفاقات أوسلو، ووقف التنسيق الأمني، والتي اتُخذت في ذروة الموقف الفلسطيني الموحّد من "صفقة القرن"، أي قيمة. كما تحوّل اللاجئون إلى مغتربين، ومكاتب المنظمة إلى سفارات للسلطة الفلسطينية، وتجاهلت المنظمة، نظرًا إلى تبعيّتها للسلطة، فلسطينيي الخارج والفلسطينيين في فلسطين المحتلة عام 1948. وتجلّى ذلك في مرسوم إجراء انتخابات رئاسة السلطة، إذ اعتبرت انتخابًا لرئيس دولة فلسطين، في حين أن أكثر من نصف الشعب الفلسطيني لا يملك حقّ التصويت فيها، ما يعني اختزال فلسطين كلها بالسلطة الفلسطينية، وبيعنا وهم أن ثمّة دولة، مع أنها لا تملك من أمرها شيئًا.
منذ بدأت الحوارات الفلسطينية في القاهرة في عام 2012، وبند إحياء منظمة التحرير وإعادة بنائها مدرجٌ على جدول أعمالها. وعلى الرغم من الاتفاق على ذلك في تلك الجولة، والاتفاق على تشكيل إطار قيادي موحّد، يتولّى تنفيذ هذه الخطوة، فإن شيئًا من ذلك لم يتحقّق. كما أنه في اجتماعات الأمناء العامّين أخيرا، أُعيد تأكيد ذلك، وتضمّنت مراسيم الانتخابات بندًا يتعلّق باستكمال أعضاء المجلس الوطني، باعتبار أنهم يشكّلون أعضاء هذا المجلس المنتخبين من الضفة الغربية وقطاع غزة. وعلى الرغم من عدم تحديد كيفية استكمال الأعضاء الذين سيمثّلون الفلسطينيين خارج الوطن، أو في المناطق المحتلة عام 1948، فإن ذلك اعتبر خطوة توافقية على صعيد إعادة الاعتبار للمنظمة.
قرار الرئيس محمود عباس الفردي إلغاء الانتخابات بذرائع واهية، أعاد الأمور إلى نقطة البداية، وخصوصًا أنه لم تعقُب هذا القرار إجراءاتٌ أخرى، توحي بالعزم على تحقيق الوحدة الوطنية، عبر استكمال الخطوات لانتخاب مجلس وطني فلسطيني في الداخل والخارج، وبناء هيئات منظمة التحرير لتكون قائدة لنضال الشعب الفلسطيني بحق. في الحوار الذي عُقد في القاهرة أخيرا، تم إطلاق الرصاصة الأخيرة على محاولة إعادة بناء منظمة التحرير وفق أُسس توافقية، إذ تصادم نهجان: نهج السلطة الذي انتعش بالتصريحات الغربية التي دعت إلى استئناف المفاوضات، والعودة إلى العملية السلمية، والذي رهن الموقف الفلسطيني لشروط الرباعية الدولية، عبر مطالبته بتشكيل حكومة وفاق ترضى عنها الرباعية، وحصر موضوعة منظمة التحرير ومجلسها الوطني بالموافقة على إدخال حركتي حماس والجهاد الإسلامي إلى المجلس المركزي بشكل رمزي، تحسّبًا لتعرّض منظمة التحرير لعزلةٍ دوليةٍ في ما لو تجاوزت شروط الرباعية. ونهج اتّجه إلى إعطاء الأولوية لإعادة بناء المنظمة، وتشكيل قيادة مؤقتة تتولّى هذه المهمة خلال أشهر معدودة.
أمام تلك المسيرة الطويلة، هل بات من الممكن إعادة إحياء منظمة التحرير، والمحافظة على إنجازاتها ومكانتها وتمثيلها الشعب الفلسطيني، وصوغ مشروع وطني قائم على دحر الاحتلال باستخدام أشكال المقاومة المتاحة، بحسب ظروف المناطق والتجمّعات الفلسطينية تحت الاحتلال؟ وكيف يمكن ذلك؟
انتفاضة القدس وسيفها أوجدتا واقعًا جديدًا في مسار القضية الفلسطينية، يقترب من تلك الظروف التي أعقبت الانطلاقة الثانية للمقاومة الفلسطينية بعد حرب 1967، وأسفرت عن استقالة أحمد الشقيري في نهاية ذلك العام، وتولّي يحيى حمودة رئاسة اللجنة التنفيذية مؤقتا، إلى حين تسلّم حركة فتح والفصائل المسلّحة قيادتها في عام 1969.
ما عاد ممكنًا انتظار مماطلات السلطة ومناوراتها في هذا الموضوع الحسّاس. وفي الوقت نفسه، لا ينبغي الوقوع في شرك تجارب مماثلةٍ حدثت في الماضي، مثل تجربة جبهة الرفض أو جبهة الإنقاذ، فالمطلوب إعادة بناء المنظمة لتكون إطارًا تمثيليًا للشعب الفلسطيني كله، وليس إيجاد جبهات وأطر متعارضة، من شأنها تعزيز الانقسام. ولتحقيق هذا الهدف، لا ينبغي الوقوع في فخ استبدال فصيلٍ بغيره، وإنما يجب العمل بروح الجبهة الوطنية المتّحدة.
لا فائدة من المراهنة على السلطة الفلسطينية في إنجاز هدف إعادة البناء، فمن الواضح، وعبر التجربة التاريخية، أنها لا تريده، ولا تسعى إليه، فالمنظمة في نظرها ليست أكثر من رهينة تحتفظ بها، بغرض منع تفعيلها إطارًا قياديًا وتمثيليًا موحدًا للشعب الفلسطيني. ومن هنا، لا ينفصل الصراع على إعادة بناء المنظمة عن الصراع ضد النظام السياسي الحالي الذي ثبت فشله، مع إدراك أن عزل هذا النظام ورموزه لا يتم عبر صراعات داخلية، وإنما عبر المعركة الوطنية التي يخوضها الشعب الفلسطيني ضد الكيان الصهيوني، فالنضال في فلسطين وحده الكاشف للجميع.
الحملات الشعبية لإعادة البناء ينبغي أن تستمر وتتصاعد، وعلى الجاليات الفلسطينية في الخارج أن تنظّم نفسها، وترفع صوتها، وتكون مستعدةً لإجراء انتخاباتٍ تمثيليةٍ لاختيار أعضائها في المجلس الوطني. كذلك يمكن ملاحظة الدور المهم الذي قامت به لجنة المتابعة في فلسطين المحتلة منذ عام 1948 في الهبّة أخيرا، وقد يكون من الممكن تطوير عملها، وتوسيع قاعدتها، وانتخاب أعضائها، بحيث يمتلكون الصفة التمثيلية في مؤسسات المنظمة. في الوقت ذاته، على كوادر حركة فتح التي قادت شبيبتها انتفاضات الضفة الغربية أن تقوم بدورها، وعلى الفصائل الوازنة المنضوية في عضوية اللجنة التنفيذية الحالية، مثل الجبهتين الشعبية والديمقراطية، أن ترفع الغطاء الذي تقدّمة لهذه اللجنة المشلولة، وأن تنخرط في جهد بناء المنظمة. وعلى الذين يتبنّون نهج مقاومة الاحتلال، بجميع أشكاله، الدعوة إلى مؤتمراتٍ تأسيسيةٍ تضم القوى والشخصيات والاتجاهات الفلسطينية، ينبثق عنها مؤتمرٌ تأسيسيٌّ موحد، يشكل قيادة جماعية مؤقتة، تتولى هذه المهمة العظيمة، وتفتح المجال لانعقاد مجلس وطني فلسطيني جديد، على أسس تمثيلية حقيقية، وبمشاركة جميع القوى الفاعلة، على تعدّدها، ليقرّ مشروعه الوطني، وينتخب قيادة جديدة للشعب الفلسطيني، تقود نضاله حتى تحرير فلسطين وتحقيق العدالة لشعبها.