محمد العبد الله
"أول مايقوم به الاستعمار هو تعريف المُمكن والمستحيل للشعوب المضطهدة، ويعاونه في ذلك عادةً بعض أفراد الشعب"
هكذا تكلم الشهيد باسل الأعرج – كتاب " وجدت أجوبتي" ص 123.
على مدى الأشهر الأخيرة، صَعَّد المستعمر المحتل إجراءاته الميدانية القمعية داخل مدينة القدس: حملات الاعتقالات المتتالية، هدم البيوت، السطو والمصادرة للأراضي والبنايات السكنية بعقود شراء من خلال سماسرة خونة لصالح شركات وهمية، لتأخذ الهجمة الفاشية أبعاداً جديدة منذ بداية شهر رمضان الذي يمارس فيه المقدسيون طقوساً اجتماعية وروحية مساء كل يوم، تكون ساحة باب العامود ومدرجاته الحيز المكاني لها . وقد أصبح الباب بهندسته العمرانية الجميلة والساحرة أجمل بوابات البلدة القديمة في القدس المحتلة، بالإضافة لكونه المدخل الرئيسي للوصول للمسجد الأقصى وكنيسة القيامة وحائط البراق، فضلا عن كونه الممر الرئيسي لسوق باب خان الزيت، وتتفرع منه الطرق إلى أسواق العطارين واللحامين والصاغة .وقد برزت في تلك الأشهر عدة مظاهر لهذا التصعيد منها:
-انفلات الميليشيات اليهودية الصهيونية لتنظيمات المستعمرين "لاهافا " و"تدفيع الثمن" و " شبيبة التلال" في هجمات مستمرة ضد العرب وممتلكاتهم. وقد ظهر ذلك في التجمعات والمظاهرات التي تجوب منطقة باب العامود وداخل البلدة القديمة المنادية بشعارات " الموت للعرب" تحت أعين وحماية قوات الشرطة والأمن، وتنفيذاً لأفكار وتوجيهات الفاشيين الصهاينة وبمشاركة أبرز قادتهم " إيتمار بن غفير و بتسلإيل سموتيريتش ".
- في الـثالث عشر من نيسان/ أبريل قامت قوات الاحتلال بوضع حواجز معدنية لمنع الفلسطينيين من التواجد في محيط باب العامود ومن الوصول للساحة والمدرجات، مع نشر أعداد كبيرة من القوات الأمنية المدججة بالسلاح، وحولته إلى نقطة مرور فقط. وقد حاولت تلك القوات قمع محاولات الشباب الرافضة للإغلاق بالقوة التي جابهها المحتجون بكل ماملكت أياديهم. وترافق ذلك مع اقتحامٍ عناصر أمنية لمئذنتين في المسجد الأقصى وقطع أسلاك مكبّرات صوت الأذان بزعم "التشويش الذي يُحدثه صوت إمام المصلّين على احتفالات المستعمرين الغزاة بـ"عيد استقلالهم " – يوم نكبتنا - حسب التقويم العبري ،كما ذكرت بعض وسائل إعلام العدو.
معركة جديدة في حرب طويلة الأمد
لم تكن هبة باب العامود التي مازلنا نعيش يومياتها، نبتاً في صحراء قاحلة. المدينة – العاصمة الأبدية لشعبنا، رسمت طوال مراحل الاستعمار البريطاني والاحتلال الاستعماري اليهودي / الصهيوني، مساراً كفاحياً في مواجهة كل أنواع الغزو. وفي العقود الأخيرة، خاض أهل المدينة معارك متعددة في مواجهة خطط المستعمر المحتل وقواته الأمنية الرسمية، وميليشيات المنظمات الدينية / الصهيونية " المدنية شكلاً" . وكأمثلة وليست للحصر،جاءت " هبة النفق " أيلول / سبتمبر 1996، معركة الكاميرات في تشرين الأول / أكتوبر 2015، معركة البوابات الالكترونية حول المسجد الأقصى تموز/ يوليو 2017، وهبة باب الرحمة شباط / فبراير2019، لتضيف لتاريخ الكفاح الشعبي الفلسطيني صفحات مجيدة في مسيرته النضالية الممتدة على مدى قرن ونيف.
وقد شَكَلَت ساحة باب العامود فضاءً واسعاً ومفتوحاً ومركزياً للتجمعات الشعبية الرافضة للاحتلال وإجراءاته، وإذا كان معروفاً بالتاريخ والتراث والتاريخ الشفوي الأسماء التالية لباب العامود " باب دمشق، وباب نابلس، وباب النصر، وباب القديس اسطفان"، فإن تسمية جديدة " باب الشهداء "بدأت تتقدم على سواها من الأسماء عند ذكر المكان، بسسب ارتقاء عدد من الشهداء الذين اغتالتهم قوات الغزاة المستعمرين في محيط الباب.
انتصار الدم على السلاح ؛
في الهبة / المعركة الجديدة الممتدة على مدى أكثر من أسبوعين تتأكد الملامح / المؤشرات التي طبعت الحراك الشبابي، السياسي والاجتماعي في العقدين الأخيرين. ومع كل اشتباك / محطة كفاحية جديدة، تتفجر القدرات الثورية الكامنة لدى أجيال فلسطينية جديدة تتقدم الصفوف بإصرار وتحدٍ يفاجئ " ذوي القربى" والمستعمرين وحلفائهم.
ساهمت الصور والفيديوهات التي كانت تنتشر بسرعة البرق على وسائل التواصل الاجتماعي وتنقل "مباشر/ عاجل"، الرد الثوري على الإجراءات الحكومية وعلى عربدة واستفزاز واعتداءات التنظيمات الفاشية التي يمارشها الشباب المُنتفض، هذا الرد أكد على شمولية الأهداف المستهدفة ؛اشتباك مع ميليشيات المستعمرين وقوات القمع البوليسية ؛تخريب بعض المراكز الحكومية وسيارات الشرطة؛ تحطيم كاميرات المراقبة، وحرق بعض البيوت التي باعها الخونة من ضعاف النفوس. وعلى الرغم من ارتفاع عدد الإصابات والمعتقلين من الشباب، فإن صمودهم وثباتهم في الميدان، كان الحاسم في دفع حكومة الغزاة المحتلين لأخذ قرار رفع الحواجز المعدنية ،بالإضافة إلى عوامل داعمة لذلك الصمود والثبات ، كان أبرزها :
- المشاركة الميدانية بالنار التي قدمتها الكتائب المسلحة من قطاع غزة بعدة رشقات من الصواريخ وقذائف الهاون التي استهدفت المستعمرات المحيطة بالقطاع في رسالة أولية تعني أن استمرار القمع الوحشي للمنتفضين في القدس سيوسع من دائرة الاستهداف للمستعمرات وهذا يتطلب إدخال صواريخ ذات مدى أبعد وقدرات تدميرية أشد.
- الدعم /الحشد الشعبي الذي وصل للمدينة من الوطن المحتل عام 1948 ، والتجمعات / الوقفات التضامنية التي شهدتها بعض مدن الضفة المحتلة، التي تحولت لاشتباكات مع الحواجز العسكرية لقوات العدو في مداخل وشوارع مدن وبلدات عديدة.
- الإرباك الواضح في البنية السياسية والحزبية داخل كيان العدو في طريقة التعامل مع الهبة الشعبية والرشقات الصاروخية من القطاع. وهذا ماظهر في ردود الفعل على سحب الحواجز المعدنية وفي عدم الرد الواسع والعنيف على القصف الصاروخي من غزة، في تصريحات " أفيغدور ليبرمان " و " ايتمار بن غفير".
سقوط منطق "ماكان ينبغي الاشتباك"
جاءت المشاركة الميدانية من غزة وباقي المدن والمناطق في فلسطين المحتلة، لتدفع بأصحاب الشعار البائس والكارثي " ياوحدنا " للصمت والتراجع بعد أن عملوا خلال عدة عقود على تقديمه بمهرجانات "اللطم" وخطابات "التحلل من الانتماء الوطني والقومي"، كمنهج عمل لتبرير التنازلات والاستسلام. وقد حاول البعض داخل مدينة القدس في الأيام الأولى للتحرك ومن على منبر المسجد تحذير المصلين من "المندسين الذين يعيقون وجودنا في المسجد الأقصى " .كما أن بعض كبار التجار ذهب للتحذير من " المغامرين الذين سيوقفون الحركة التجارية ويلحقون الضرر بحركة الأسواق". بل تحدث أحد المشايخ في درس ديني داخل في المسجد الأقصى، تعليقاً على صورة شاب فلسطينيّ يُلقي القهوة في وجه أحد المستعمرين في محيط باب العامود، قائلاً إنّ ذلك "ليس من أخلاق الإسلام" !. لكن، التحدي والصمود والبطولة التي أكدها شباب الانتفاضة في الهبة الجديدة جعلت دُعاة " ماكان هناك ضرورة لهذا الرد العنيف " يبلعون ألسنتهم ويصمتوا، بل أن البعض منهم بدأ بتأييد ماقام به الشباب بعد أن حققوا نصراً واضحاً. وكما يُقال " الانتصار له ألف أب فيما الهزيمة يتيمة لا أب لها ". لهذا،حضر على وجه السرعة من اعتاد في مناسبات سابقة على "تصدر المشهد والشاشات"!. كان جيل التحدي والاشتباك المباشر مع العدو يعرف بالخبرة والتجربة وسرديات التاريخ أن هذه " الرموز" لاتعرف الميادين إلاّ بعد تحريرها، ولهذا قوبل حضور تلك " الشخصيات " باستهجان وتعليقات ساخرة وأحياناً بقذفها بعبوات الماء الفارغة. وكم كان التناقض واضحاً وفاقعاً مابين صُنّاع الانتصار وحُماة الباب وكل بوابات وأحياء المدينة كما في معركة ثبات أهالي حي الشيخ جراح للبقاء في بيوتهم، وأدعياء الحرص على المدينة وأهلها . فما شاهدناه في قسمات وجوه الشباب والشابات التي نزفت دماً وهي تواجه الغزاة المستعمرين بتنوع تسمياتهم وملابسهم "عسكرية/ أمنية أو مدنية"، وقبضات أيديهم التي قذفت حجراً أوأنبوبة متفجرة على قوات الاحتلال، يشير إلى حُماة الباب وساحته ومدرجاته. أما أدعياء الحرص على المدينة وأهلها ، أولئك الذين لايتذكرون القدس إلا لـ" قطف ثمار انتصار لم يصنعوه" أو لـ " قيادات" تتعرف على المقدسيين والمقدسيات كأرقام في سجلات الناخبين/ ات، فلن يجد شباب وشابات الهبة صعوبة في التعرف إليهم. لهذا، فإن أهل القدس اعتادوا التعبير عن مواقفهم والإدلاء بأصواتهم في انتخابات ميدانية تظهر نتائجها المباشرة في انتزاع الانتصار وليس في استجداء الحق من سارقيه . لقد وضع أهل القدس أصواتهم -الهادرة- التي وصلت لشعبهم وأمتهم وللعالم ، ممهورة بدمائهم قبل أسمائهم في صندوق الاقتراع / الانتخاب الجماعي الذي حددوه هذه المرة "ساحة ومدرجات باب العامود - باب الشهداء"، وليس في مراكز/ مكاتب البريد داخل مدينتهم الخاضعة لحكومة الاحتلال كما حصل في انتخابات 2006عام بناءً على "اتفاقية المرحلة الانتقالية" الموقعة بين منظمة التحرير وحكومة العدو في واشنطن عام 1995.
لتتوحد كل الجهود للمواجهة القادمة
مع مرور عدة أيام على الموجة الجديدة من هبة أهل القدس، فإن كل التطورات على الأرض تؤكد أن المعركة الحالية ستستمر طالما بقي الاحتلال ،وأن تحقيق أي انتصار - جزئي / موضعي ، وربما يكون آنياً أو لفترة زمنية محددة كما تدل معارك سابقة في القدس لأن العدو يتراجع أحياناً ليمتص موجات الغضب الشعبي ثم ينقض مجدداً - هو عملية تراكمية تتطلب تطوير الفعل الكفاحي في كل مدن وبلدات فلسطين المحتلة من خلال الاشتباك مع الحواجز العسكرية لجيش الاحتلال، لأن الوقفات والتحركات بالميادين والساحات – رغم أهميتها - لم تعد قادرة على تخفيف الضغط القمعي الوحشي عن أهل القدس. إن يوم الثامن والعشرين من رمضان، سيكون ساحة مواجهة حقيقية مع ميليشيات التنظيمات اليهودية الصهيونية الفاشية المدعومة بالقوى الأمنية والعسكرية لحكومة الاحتلال، لأن تلك التنظيمات تخطط لاجتياح المسجد الأقصى كرد ثأري على ماحصل في مواجهات باب العامود التي أدت لرضوخ قادة العدو لسحب العوارض المعدنية وعودة أصحاب الأرض لممارسة طقوسهم الاجتماعية والروحية في الساحة وعلى المدرجات. لهذا، فإن رفع درجة التأهب والاستعداد في مدينة القدس وفي باقي المدن والبلدات وفي المخيمات داخل فلسطين المحتلة، وفي الكتائب والسرايا داخل قطاع غزة ، للمشاركة في حماية القدس، شعباً ومقدسات هي برنامج العمل المطلوب والمترافق مع الخطوات النضالية الميدانية التي تؤكد جميعها على وحدة الشعب ووحدانية الهدف.
من أجل ألايتحول التفاعل والتشارك لطقس موسمي مع أهل المدينة وحُماتها في كل المعارك التي يخوضونها لمواجهة خطط تهويد البلدة القديمة ، فإن تشكيل لجان حماية شعبية في المدينة الواقعة – لمصلحة شعبها المقاوم – خارج هيمنة سلطة الحكم الإداري الذاتي المحدود، تشارك فيها الفصائل والقوى السياسية الملتزمة بالمقاومة وبإدامة الاشتباك مع العدو، كمقدمة ضرورية وموضوعية للتحضير لعصيان مدني شامل ولانتفاضة شعبية عارمة،مدعومة بلجان وطنية داخل فلسطين وخارجها توفر إسناداً سياسياً ومعنوياً ، وتوفر دعماً مالياً يساعد أهل القدس للبقاء والثبات في بيوتهم وعلى أرضهم، لقطع الطريق على سماسرة " المال الخليجي المتصهين – المال القذر" من شراء النفوس المريضة قبل المباني والأراضي. لهذا، فإن العمل على بناء هذه الأطر الشعبية الوطنية أصبح مهمة كفاحية ، خاصة، وأن "ملهاة الانتخابات" قد انتهت على يد من قرر مواعيدها !. هذه الملهاة التي قال عنها وفيها الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين " زياد النخالة " القول الفصل (مسرحية مضللة ولاتعتبر انجازاً وطنياً، وعلى قوى شعبنا واجب الوحدة وواجب مقاومة هذا الاحتلال).