حسن لافي
أثارت تصريحات رئيس أركان "الجيش" الإسرائيلي أفيف كوخافي في مؤتمر معهد الأمن القومي الإسرائيلي، والتي تحدّث فيها عن وضع "الجيش" خططاً عسكرية لمواجهة المشروع النووي الإيراني، وأكد أن عودة إدارة الرئيس جو بايدن إلى الاتفاق السابق أمر سيئ جداً، موجة كبيرة من الانتقادات في "إسرائيل".
وقد استعرض كوخافي أيضاً الخطوط العريضة للطريقة التي سيتعامل بها "الجيش" الإسرائيلي في أي حرب قادمة مع أي جبهة من جبهات المقاومة، إذ أكد أن جيشه لن يكتفي باستهداف المقاومة وجنودها، ولكنه سيقصف البنى التحتية والمدنية المحيطة بها.
لم تقتصر الانتقادات الموجهة إلى تصريحاته على المحللين والمعلقين العسكريين الإسرائيليين، في ظاهرة مغايرة لموقف الإعلام الإسرائيلي المجند دوماً في خدمة المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، بل ازداد الأمر تشويقاً عندما وجّه وزير الحرب الإسرائيلي بني غانتس، الذي تعتبر المؤسسة العسكرية برمتها تحت قيادته السياسية، انتقاده إليه بشكل صريح، عندما أشار إلى "أن الخطوط الحمر لأمن إسرائيل يتم رسمها بالتأكيد في الغرف المغلقة".
أدخل كوخافي من خلال تصريحاته "الجيش" الإسرائيلي في أتون العراك السياسي المحتدم في المشهد السياسي الإسرائيلي بين رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ومنافسيه، إذ اعتبر أن موقفه يتساوق مع موقف نتنياهو من الاتفاق النووي الإيراني، بل اعتبر البعض أنه تخطى حدود المهنية إلى الحدود السياسية التي ليست من اختصاصه، والأهم أنه وضع "الجيش" الإسرائيلي في مواجهة الإدارة الأميركية الجديدة، بدلاً من أن يقوم نتنياهو بهذا الدور كرئيس للوزراء.
في اعتقادنا، لا يخفى على أفيف كوخافي حساسية المشهد السياسي الإسرائيلي وتعقيداته، وأن تصريحاته أتت في توقيت حرج، فالحملة الانتخابية للكنيست في شهر آذار/مارس المقبل مستعرة، والخارطة السياسية غير مستقرة.
من جهة أخرى، يشعر الجميع في "إسرائيل" بالتوجس من كيفية إدارة العلاقة مع الإدارة الأميركية الجديدة بعد انتهاء فترة 4 سنوات من العسل الأميركي في عهد دونالد ترامب، لكن يبقى التساؤل: لماذا أدلى بتلك التصريحات؟
تواجه كوخافي مشكلة رئيسية منذ توليه منصب رئيس الأركان، وتتمثل بعدم الاستقرار الحكومي، الأمر الذي لم يمكّنه من تحصيل موازنة مستقرة لخطته المتعددة السنوات "تنوفا" (الزخم)، الأمر الذي وضع علامات استفهام حول إمكانية تنفيذها، وخصوصاً أن فترته القانونية في المنصب لم يتبقَ لها سوى عامين.
تمثل استراتيجية "الفزاعة الإيرانية"، من خلال صناعة الخوف لدى المستوطنين الصهاينة وإشعارهم دوماً بالخطر الوجودي، مصلحة مشتركة بين كوخافي ونتنياهو، وخصوصاً أن الأخير معتاد على استخدامها بشكل دائم للخروج من أزماته الداخلية. لذلك إن إسماع المستوطنين الصهاينة بعضاً من طبول الحرب سيسهل على كوخافي المطالبة بتوفير موازنة مستقرة لخطته "تنوفا" من جهة. ومن جهة أخرى، سيخدم هذا الأمر نتنياهو في حملته الانتخابية، إذ تمنحه تصريحات كوخافي دعم "الجيش" في أي خلاف مع إدارة بايدن، من دون أن يظهر أنه غير قادر على إدارة العلاقة مع البيت الأبيض، الأمر الذي يستوجب إزاحته من المشهد السياسي الإسرائيلي، وهو ما لوح به رئيس حزب "أمل جديد" جدعون ساعر؛ أهم منافسيه على منصب رئاسة الوزراء.
تصريحات كوخافي عن طبيعة المعركة القادمة وماهية الخطة الاستراتيجية الإسرائيلية لتحقيق النصر ليست جديدة، فقد تكلم عنها في مناسبات عديدة سابقاً، ولكن تكرار ذلك، من وجهة نظرنا، يعود إلى عدة أسباب، أهمها:
أولاً، "الجيش" الإسرائيلي، بعد عدم قدرته على تحقيق الحسم في معاركه الأخيرة، بدءاً من حرب تموز، ومروراً بحروب غزة الثلاث.
لقد جاء كوخافي ليستكمل ما بدأه رئيس الأركان السابق غادي إيزنكوت في مساعي المستوى العسكري الإسرائيلي لإعادة تعريف النصر بديلاً من عدم القدرة على تحقيق الحسم، واعتبار معيار النصر بعدد القتلى في صفوف العدو، كحالة هروب إسرائيلية من حقيقة مؤرقة، مفادها أنهم باتوا غير قادرين على حسم أي معركة مع المقاومة، سواء في الجبهة الشمالية أو الجنوبية.
ثانياً، يدرك كوخافي قدرة أعداء الكيان الجدد المتمثلين بفصائل المقاومة، والذين يختلفون عن الجيوش الكلاسيكية للدول العربية، وخصوصاً مع امتلاكهم القدرات الصاروخية القادرة على إصابة مساحات واسعة من كيان الاحتلال، الأمر الذي جعل الجبهة الداخلية الإسرائيلية في مرمى نيران المقاومة في أي حرب مقبلة، مع أهمية الإشارة إلى إدراكه التام بعدم قدرة منظومات اعتراض الصواريخ والدفاع الجوية الإسرائيلية على تشكيل مظلة حماية كاملة للجبهة الداخلية الإسرائيلية غير قادرة على الاختراق.
لذلك، يسعى كوخافي منذ توليه المنصب إلى إيصال رسالة إلى جبهته الداخلية الإسرائيلية بأن عليها الصمود أمام قوة المقاومة الصاروخية، حيث لا خيار لها إلا الصمود. وبذلك، يحاول إلزام الجبهة الداخلية الإسرائيلية بتحمّل الخسائر في الحرب المقبلة كشرط لتحقيق "الجيش" الإسرائيلي الانتصار بها.
ثالثاً، إن تصريحات كوخافي بخصوص تعريف الخطر والعدو، والاتساع المتعمّد لتلك الدائرة من الاستهداف الإسرائيلي لتصل إلى المدنيين والمؤسسات المدنية، بحجة دعمها للمقاومة أو استخدام الأخيرة لها بأي طريقة، هي رسالة ردع وإرهاب لحاضنة المقاومة الشعبية من جهة. ومن جهة أخرى، هي تمهيد للطريق من خلال مبررات كاذبة لشرعنة استهداف المدنيين والعزّل.
بمعنى آخر، إنّ محاولة كوخافي قطع الطريق أمام القانون الدولي في الوقوف ضد استراتيجية "عقيدة الضّاحية" التي انتهجها "الجيش" الإسرائيلي في حرب تموز، وسياسة "الأرض المحروقة" التي استخدمها في حروب غزة الثلاث، تأتي كرد فعل على عدم قدرته على استهداف المقاومة بشكل مباشر. وبذلك، يضرب القانون الدولي بعرض الحائط.
تنبع الانتقادات الإسرائيلية لتصريحات كوخافي الخاصّة بصورة الحرب المقبلة بشكل رئيسي من عدم قبول الجبهة الداخلية الإسرائيلية بالمعادلة التي تحدث عنها، عندما قال إن المدن الإسرائيليّة ستتلقّى ضربات قوية من صواريخ المقاومة. ورغم ذلك، عليها الصمود من أجل منح "الجيش" الإسرائيليّ الوقت اللازم لتحقيق النصر الإسرائيلي بتعريفه الجديد، وهو قتل المدنيين، الأمر الذي اعتبره البعض الصهيوني خطراً على صورة "إسرائيل" أمام المجتمع الدولي، إذ تنزع تصريحاته قناع الديموقراطية الزائفة عن وجهها الاستعماري البشع.