كانت تلك التجربة الممتدة، لمحطات الانتفاض والجمود خلال مسيرة النضال الفلسطيني تتحدّث عن طبيعة لا تفتأ تتكرر كلّ مرة؛ وهي أن موجبات الانتفاض لا تكفي لإشعال لحظة المواجهة أو العمل على صناعتها، وأن أحداثاً مفاجئة لكنْ مؤثرة ومحفزة للمشاعر هي فقط من كانت تتكفّل بتفجير لحظة المواجهة ثم بصياغة معالم مرحلتها التالية.
بُعيد ثورات الربيع العربي، وتحديداً ثورة يناير المصرية، عملت مجموعات شبابية على مدار أشهر للترويج لفكرة الانتفاضة الثالثة، ودعت لها على نطاق تجاوز حدود فلسطين إلى الشتات، على أمل أن تكون ذكرى النكبة 15-5-2011 لحظة الصفر التي ستشتعل بعدها الانتفاضة الثالثة.
غير أن المشهد الذي جرى الإعداد له على مدار شهور لم يتجاوز يوم الذكرى، ورغم أن فعاليات ذلك اليوم كانت مهيبة داخل فلسطين وخارجها، إلا أنها أخفقت في الاستمرار بعده، إما لأن الشارع ليس مستعداً من ناحية نفسية، أو لأنه غير مقتنع بجدوى الاستمرار، أو ربما لغياب صاعق التأثير ومحفّز المشاعر، وقد كان هذا المحفّز في الانتفاضتين السابقتين على التوالي: الدماء في الأولى، والمساس بالأقصى في الثانية.
اليوم، ومع تزايد المطالبات والأمنيات بإشعال انتفاضة لأجل الأسرى الإداريين المضربين عن الطعام، لا بدّ أن نعي بأن عامل تحريك الهمم ما زال غائباً، وأن استشعار أهمية الإضراب وضرورة دعمه، وكذلك مدى خطورة أوضاع المضربين لا يتجاوز فئة محدودة من الشارع هي تلك الحاضرة في الفعاليات منذ بداية الإضراب، لأن جزءاً من هذه الفئة يتحرك لقرابته بالمضربين، فيما يتحرك الجزء الآخر لأن الهم الوطني حاضر لديه باستمرار وبغض النظر عن العوامل النفسية والسياسية السلبية التي تقيّض الهمم ودوافع التحرك.
ولعلّ وعي هذه الحقيقة يُعين على فهم مفتاح هذه الانتفاضة المأمولة، وفهم أسباب عدم اكتراث قطاع كبير من الناس بما يجري، بدل التفسير الجزئي دائماً أو المغلوط لكثير من الظواهر السلبية في المجتمع الفلسطيني، ولنزعة البلادة السائدة الناتجة بالأساس عن تعايش قطاع من الناس مع حالة الاحتلال، وقناعتهم بأن العيش في ظله ممكن وغير محتاج لمعارك باهظة الثمن، وهي قناعة ساهمت سياسة السلطة خلال السنوات الماضية في تعزيزها..!!
وإن مفتاح هذه الانتفاضة المأمولة يمكن الظفر به إذا تطورت آليات التضامن مع الأسرى، وانتقلت إلى بؤر المواجهة مع الاحتلال في عدة مواقع في آن واحد.. صحيح أن الفعاليات داخل مراكز المدن والبلدات كانت مهمة ومطلوبة لاستنهاض روح الناس وتعريفهم بالقضية من خلال الميدان، لكن مرور شهر على الإضراب يتطلب نقلة نوعية في الفعاليات، حتى مع بقائها في دائرة المقاومة الشعبية السلمية التي يُفترض أنها محلّ ترحيب من قبل السلطة في الضفة..!!
وما دامت هناك فئة من الجمهور الفلسطيني تتفاعل يومياً مع نشاطات نصرة الأسرى، فهذه الفئة –على قلّتها- يمكن التعويل عليها في تطوير التفاعل باتجاه يضغط على الاحتلال، أو يفتح أفقاً نضالياً جديداً، أو يكسر حاجز خوف استطال بنيانه داخل النفوس في غفلة من الفعل وحضور للجمود خلال السنوات السابقة.