فارس عز الدين
الساعة الواحدة ظهر يوم الخميس 5 آذار/ مارس 2020م، انقلبت الأمور رأسًا على عقب في مخيم النصيرات للاجئين، وفياتٌ وعشرات الإصابات جراء كارثة حقيقية تمثلت في حريقٍ ضخم اندلع في السوق المركزي للمخيم، اللحظات الأولى كانت صادمة للجميع من عاش الحدث واقعًا ومن تابعه عبر وسائل الإعلام، فالكارثة بضخامتها وآثارها المدمرة وضحاياها كانت سابقًة خطيرة على مستوى محافظات الوطن.
بدايًة نترحم على الأرواح الغالية التي قضت نحبها، ونتضرع إلى الله أن يمن بالشفاء العاجل على المصابين، وأن يعوض أصحاب الممتلكات خيرًا. المثير للغرابة أنه رغم كثرة الأقلام التي تنبري لكتابة المقالات السياسية وتنبؤ سيناريوهات الانتخابات الصهيونية، فإن هناك عزوفًا لدى الكُتًّاب عن التطرق لكارثة النصيرات والفاجعة الأليمة التي حلت بأهلنا هناك، وحقيقًة لم أجد ما يبرر ذلك، رغم أن هول ما جرى يتطلب أقلامًا صادقة وتقارير وتحقيقات واستقصاءات صحفية للوقوف عند أبعاد ذلك لاستخلاص العِبر خاصًة أن أرواح الأبرياء كانت هي الثمن.
سرعة إعلان الأجهزة المختصة وخصوصًا الدفاع المدني أن الأمور خارج السيطرة، يفتح الباب على عدة تساؤلات مشروعة تندرج تحت الجانب الوقائي والجانب التنفيذي ومدى الاستعداد لمواجهة مثل هذه الأزمات. فإدارة الأزمات تعني "الاستعداد لما قد لا يحدث، والتعامل مع ما حدث" وهذا علم مختص في إدارة ومواجهة الكوارث والتعامل معها ومعالجة آثارها ونتائجها لاستنباط التجارب واستخدام الوقائع كأساس للقرار السليم. فأين يكمن الخلل في "كارثة النصيرات؟!".
نظريًا، فإن كل المختصين بدءً بالقانون وانتهاء بدور الجهات الرقابية والتنفيذية قد يخلون مسؤوليتهم مما جرى بذريعة أن اللوائح وشروط السلامة والوقاية من الحريق فيها تشديد على توفير متطلبات السلامة والوقاية، وأنه لا ترخص أي منشأة إلا بعد اجتياز موافقة الدفاع المدني والبلدية، وكذلك إجراء فحوصات دورية كل ستة شهور للمنشآت ومعدات السلامة ومكافحة الحريق فيها.
عمليًا، فإن هذه الكارثة الإنسانية الأليمة تثير تساؤلات كثيرة حول مكان المنشآت الخطرة وسط الاكتظاظ السكاني، وأيضًا فإن حجم التخزين من الوقود والغاز تجاوز الكمية المسموح بها وهي 300 كيلوجرام. ولا ننسى الدور الرقابي المترهل - كما يبدو- حيث تدعي البلدية أن اللجنة المختصة طلبت من المخبز تنفيذ إجراءات الأمن والسلامة خلال أسبوعين! فالتساؤل هنا، هل أرواح البشر تحتمل هذا التأجيل حال معرفتنا بالآثار الكارثية التي قد تحصل. إن ذلك وأكثر كان يتنافى مع متطلبات الوقاية والسلامة المنصوص عليها نظريًا في القانون الخاص بالمنشآت.
إن إدارة الأزمات لها عدة متطلبات منها أولًا: التخطيط المحكم فمعظمها يتفاقم بسبب أخطاء بشرية وإدارية. هنا يتضح لنا أن التدريب على التخطيط للأزمات يُـعد من المسلّمات الأساسية فهو يساهم في منع حدوث الأزمة أو التخفيف من آثارها وتلافى عنصر المفاجآت المصاحب لها. ويتبين لنا أن التخطيط يتيح لفريق عمل إدارة الأزمات القدرة على إجراء رد فعل منظم وفعّال لمواجهتها بكفاءة عالية والاستعداد لمواجهة المواقف الطارئة غير المخطط لها التي قد تصاحب الأزمة. ثانيًا: التنبؤ الوقائي، لتفادي حدوث الأزمة مبكراً عن طريق صياغة منظومة وقائية مقبولة تعتمد على المبادأة والابتكار وتدريب العاملين عليها. حيث تم اثبات التناسب الطردي بين الحل الوقائي للأزمات والقدرة على مواجهة الأزمات بمستوى جاهزية عالٍ.
يتضح مما سبق، أهمية إعداد خطط طوارئ لمواجهة المفاجآت التي قد تحدث لضمان سرعة التعامل معها وتطويق آثارها، ففي مرحلة ما قبل الأزمة يجب التخطيط والتوقع ورسم السيناريوهات واتخاذ التدابير الوقائية والاستعداد للتعامل مع الأحداث مثل تدريب الأفراد والصيانة الدورية للمعدات ونشر ثقافة الوعي بإدارة الكوراث. وفي مرحلة مواجهة الكارثة أثناء حدوثها يجب تنفيذ الخطط التي سبق التدرب عليها وتوجيه خدمات الطوارئ والإغاثة وفقًا لتطورها، والمسارعة في عمليات الإخلاء. والمرحلة الأخيرة هي مرحلة التوازن والتي تتمثل في حصر الخسائر في الأفراد والمنشآت والـتأهيل وإعادة البناء وتقييم الإجراءات التي تم اتخاذها في التعامل مع الكارثة وتوثيق الحدث وتقديم التوصيات والمقترحات اللازمة للجهات المعنية للاستفادة منها في تطوير الخطط وفق المستجدات.
الخسائر المترتبة على "حريق النصيرات" كانت صدمة إنسانية كبيرة، حيث أنها خلفت قصصًا يندى لها الجبين، فلا يمكن حصر الخسائر بعدد الأرواح البريئة التي قضت، فلكلٍ منها قصص تدمي القلوب، ونتائجها ستتجاوز الأيام لتكبر مع السنين حزنًا وألمًا وغصة في قلوب المتضررين بفقدان أحبتهم وذويهم. أما الخسائر المادية رغم كثرتها تبقى أخف ضررًا من فقد الأرواح وهذا يتطلب دورًا وطنيًا في تعويض المتضررين لممارسة دورهم من جديد.
كشفت الكارثة عن عمق الترابط والتآزر وقوة العلاقات الاجتماعية بين أفراد المخيم من جهة، ومن جهة أخرى تداعي كل شرائح المجتمع الغزي من كافة المحافظات لنجدة أهلهم في النصيرات لمنع انتشار النيران والحد من الخسائر، وهنا نبرق بتحية الوطن لجميع الأجهزة المختصة والتنظيمات الفلسطينية ومؤسسات المجتمع المدني وأصحاب شركات الباطون وأصحاب محطات تحلية المياه وتوزيعها وكل الأهل الذين ساهموا في وقف انتشار الكارثة والذين تداعوا لمعالجة الآثار الناجمة عنها. كذلك نوجه التحية لإعلامنا الفلسطيني الذي غطى الحدث وكان صوتًا لنشر المناشدات بسرعة التوجه للمكان والمشاركة في إخماد الحريق، ولا ننسى طواقم الإسعاف والطوارئ والطواقم الطبية التي داوت الجروح وخففت من المأساة.
وأسجل هنا عدة ملاحظات يجب تؤخذ بعين الاعتبار لضمان عدم تكرار المأساة منها:
- فتح لجان تحقيق جادة للوقوف عند الأسباب الحقيقية للكارثة ومصارحة الجمهور ومكاشفته بشفافية.
- تقديم المتورطين والمتسببين والمتساهلين للقضاء العادل فنتائج الكارثة تستحق ذلك.
- ضرورة تطبيق القانون النظري المختص بالمنشآت وخزن المواد القابلة للاشتعال عمليًا دون تهاون.
- تشديد إجراءات الرقابة المتعلقة بتدابير السلامة والوقاية
- التهاون في تطبيق القانون يكلفنا أرواحنا، وهذه مسؤولية دينية ووطنية بالغة الأهمية
- تطوير أجهزة ومعدات الدفاع المدني ورصد ميزانيات تخدم هذا الهدف
- وضع خطط طوارئ محكمة في كل محافظة والتدرب عليها بشكل دوري
- نشر ثقافة الأمن والسلامة والوقاية عبر كل الوسائل والمنابر المتاحة
- الحد من التسرع في نشر الأخبار عبر وسائل التواصل الاجتماعي مما قد يحدث ارتباك داخلي.
- مؤازرة أهلنا المتضررين ومساندتهم اجتماعيًا وتقديم العون بما يخفف عليهم بلواهم
- التعويض المادي وحفظ الحقوق للمتضررين لإعادة تمكينهم من مباشرة مصالحهم وأعمالهم.
وأسأل الله أن يجنب شعبنا ويلات الكوارث وأن يتقدم مسؤوليتنا المخلصين الذين يخافون الله فينا ويكونوا عونًا وسندًا حقيقيًا لصمود شعبنا في مواجهة العدوان الصهيوني المستمر.